نشرت الزميلة جريدة الرياض يوم الخميس 4-3-1431ه في صفحتها الأخيرة هذا الخبر: (أوقف مواطن في مدينة عرعر البناء في منزله بعد اكتشافه لعش به فراخ حمامة برية، وضعته في الجدار الملازم لأرضه التي بدأ بناء منزل عليها).وتحدث المواطن علي العنزي ل»لرياض»....
....قائلاً: (بعد أن أخبرني أحد العمال عن وجود هذا العش توجهت إلى مكانه، وشاهدت فرخ حمامة تقوم برعايته، فقررت تأجيل البناء لبعض الوقت حتى أقوم بنقل العش من خلال استشارة بعض المتخصصين في الطيور)، وأضاف قائلاً: (أنا أقوم ببناء منزلي على نفقتي الخاصة، وإهدار القليل من الوقت لا يعني لي الكثير في إنجاز منزلي الخاص حيث ما زلت أقطن مع إخوتي في منزل والدي -رحمه الله)، مؤكداً أن ديننا الإسلامي يحث على الرحمة إضافة إلى قيمنا وعاداتنا الاجتماعية التي تحبذ الموقف الكريم أنى كان نوع المسدى له هذا المعروف....
تأملت في خبر علي معزي العنزي مع يمامة عرعر فتذكرت ما سطرته أنامل الأديب العظيم الرافعي في (وحي القلم) عن قصة عمرو بن العاص - رضي الله عنه - حينما فتح مصراً مع يمامته وسماها الرافعي «اليمامتان» يمامة حقيقة ويمامة بشرية شغفها القائد المسلم عمرو بن العاص حباً... وختمها: وفُتحتْ مصرُ صُلْحاً بين عمرو والقِبط، وولى الرومُ مُصْعِدين إلى الإسكندرية، وكانت ماريةُ في ذلك تستقرئ أخبارَ الفاتح (عمرو بن العاص) تطوفُ منها على أطلال من شخص بعيد; وكان عمرو من نفسها كالمملكة الحصينة من فاتح لا يملكُ إلا حُبهُ أن يأخذَها; وجعلت تذوي وشَحَبَ لونُها وبدأت تنظر النظرةَ التائهة، وبان عليها أثر الروح الظمْأى; وحاطها اليأسُ بجوّه الذي يُحرق الدم; وَبَدَت مجروحةَ المعاني; إذ كان يتقاتلُ في نفسها الشعوران العَدُوّان: شعورُ أنها عاشقة، وشعورُ أنها يائسة! ورقَّتْ لها أرمانوسة، وكانت هي أيضاً تتعلق فتىً رومانيّاً، فسَهِرَتا ليلةَ تُديران الرأي في رسالة تحملها ماريةُ من قبلها إلى عمرو كي تصلَ إليه، فإذا وصلتْ بلَّغت بعينيها رسالةَ نفسها... واستقرّ الأمرُ أن تكون المسألةُ عن ماريةَ القبطية وخبرها ونسلها وما يتعلَقُ بها مما يطول الإخبارُ به إذا كان السوّالُ من امرأة عن امرأة. فلما أصبَحَتا وقعَ إليها أن عمراً قد سار إلى الإسكندرية لقتال الروم، وشاع الخبر أنه لما أمر بفُسْطاطه أن يُقَوّضَ أصابوا يمامةً قد باضت في أعلاه، فأخبروه فقال: «قد تَحَرَّمَتْ في جوارنا، أقِروا الفسطاطَ حتى تطيرَ فِرَاخُها».... فأقَرّوه!...ولم يمضِ وقت غيرُ طويل حتى قضت ماريةُ نحبها، وحَفِظت عنها أرمانوسةُ هذا الشعر الذي أسمته: نشيد اليمام:
على فُسطاطِ الأمير يمامة جاثمة تَحْضن بَيْضَها.
تركها الأميرُ تَصنعُ الحياة، وذهب هو يَصنعُ الموت!
هي كأسعد امرأة; تَرَى وتلمسُ أحلامَها.
إن سعادةَ المرأة أولُها وآخِرُها بعضُ حقائق صغيرة كهذا البيض.
على فسطاط الأمير يمامة جاثمةٌ تحضن بيضَها.
لو سُئِلَتْ عن هذا البيض لقالت: هذا كَنزي.
هي كأهنأ امرأة، مَلَكَت مِلكها من الحياةِ ولم تفتقِر.
هل أُكلف الوجودَ شياً كثيراً إذا كلفتُهُ رجُلاً واحداً أحبه!
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضَها.
الشمسُ والقمرُ والنجوم، كلُها أصغرُ في عينها من هذا البيضِ.
هي كأرق امرأة; عرفت الرقَّةَ مرتين: في الحب، والولادة.
هل أُكلف الوجود شياً كثيراً إذا أردتُ أن أكون كهذه اليمامة!
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضَها.
تقول اليمامة: إن الوجودَ يحب أن يُرى بلونين في عين الأنثى;
مرةً حبيباً كبيراً في رَجُلها، ومرة حبيباً صغيراً في أولادها.
كلُّ شيء خاضغ لقانونه; والأنثى لا تريد أن تخضع إلا لقانونها.
أيتُها اليمامة، لم تعرفي الأميرَ وتركَ لكِ فسطاطَه!
هكذا الحظ: عدل مضاعفٌ في ناحية، وظلم مضاعف في ناحية أخرى.
احمدي اللهَ أيتُها اليمامة، أنْ ليس عندكم لغات وأديان، عندكم فقط: الحب والطبيعةُ والحياة..
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها.
يمامة سعيدة، ستكون في التاريخ كهدهد سليمان.
نُسب الهدهد إلى سليمان، وستُنسب اليمامة إلى عمرو.
واهاً لك يا عمرو! ما ضر لو عرفتَ «اليمامة الأخرى»!
علي بن معزي العنزي... أنموذج بسيط على ما يتمثل به إنسان عرعر (الحبيبة) من قيم وأخلاقيات عربية أصيلة تجاوزت البشر إلى الكائنات الأخرى تطبيقاً واقعياً لتعاليم الإسلام على أرض من الزعفران والمسك، أرض الهواء العليل والإنسان السوي الذي لم تزيفه حضارات الإسمنت والحديد، أرض يمكن للزمن أن يختصرها بأنها غير صاخبة الأضواء وتبعث في النفس الراحة والطمأنينة، غاية ما يحلم بها أهلها العيش بهدوء رغم استئثار غيرهم بكل شيء... تجد أحدهم لا يجد قوت يومه ولا يزال يناضل من أجل القيم والفضيلة والكرم، ويقاوم كل الهزات ليبقى في عيون الآخرين متماسكاً جباراً، تخالط أهاليها وتضاريسهم فتستعذبهم، ويتعلق قلبك بهم رغم كل محاولات إغراء الهجرات عنها والهروب منها... هي هذه عرعر باختصار وأولئك هم أهلها الكرماء الذين صاغهم الإسلام فأحسن صياغتهم وأدبتهم العروبة فأتقنت تأديبهم وارتسمت سماتهم بقيمها الأصيلة، ولا أدل على ذلك من فعل المواطن (علي) رغم حلمه البسيط مثل أي شمالي ببناء بيت صغير بتلك اليمامة التي اختارت جواره ولم يكمل بناء بيته وفضل الإقامة عند إخوته على أن يفزعها على فراخها وبخاصة أن الظروف علمته ماذا يعني العش الصغير عند هذه اليمامة في صورة لا تختلف عن صورة سيدنا عمرو بن العاص ويمامته والجميع منطلقون من نصوص شرعية تثبت الرفق بالطيور وفراخها. وقد ورد في سنن أبي داود من حديث عامر قال: (بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل رجل عليه كساء وفي يده شيء قد لف عليه طرف كسائه، فقال: يا رسول الله إني لما رأيتك أقبلت فمررت بفيضة شجر فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فأخذتهن فوضعتهن في كسائي. فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي فكشفت لها عنهن فوقعت عليهم فلففتها معهن وهاهن فيه معي. قال صلى الله عليه وسلم: ضعهن عنك، فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن. قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أتعجبون لرحمة أم الفراخ بفراخها؟ قالوا نعم يا رسول الله، قال: فو الذي بعثني نبياً لله أرحم بعباده من أم هؤلاء الأفراخ بفراخها... أرجع بهن حتى تضعهن حيث أخذتهن، فرجع بهن وأمهن ترفرف عليهن..). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخل رجل فأخرج بيض حمرة -وهي ضرب من الطيور أحمر اللون- فجاءت الحمرة ترف على رأس الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: أيكم فجع هذه؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله أخذت بيضها، وفي رواية أخذت فرخها فقال - صلى الله عليه وسلم: رده رده رحمة لها). وقال عبد الرحمن بن عبد الله: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأينا حمرة معها فرخان لها فأخذناهما فجاءت الحمرة تعرض -أي ترفرف- فلما جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها)... والمسلم لا يجعل من الطيور أو الحيوانات هدفاً للرمي، فقد مرَّ عبد الله بن عمر بفتيان من قريش ربطوا طيراً على مكان مرتفع، وهم يرمونه، فلما رأوا ابن عمر هربوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً. (مسلم). ورأى أنس غلمانًا ربطوا دجاجة، وأخذوا يرمونها بنبالهم، فقال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُصَبَّر البهائم (أي تُتخذ هدفًا). (البخاري). وكان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر مع الصحابة، ووجد الصحابة حُمَّرة (طائراً كالعصفور) ومعها فرخان صغيران، فأخذوا فرخيها، فجاءت الحُمرة إلى مكان الصحابة وأخذت ترفرف بجناحيها بشدة، وكأنها تشتكي إليه.. ففهم النبي صلى الله عليه وسلم ما تقصد إليه الحمرة، فقال: (من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها) (أبوداود)... والمسلم لا يذبح الطيور ولا يصطادها إلا بسبب شرعي؛ وعليه حينئذ أن يلتزم تجاهها الرفق والإحسان. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح). وأخيراً أين قسوة قلوب من يتلقفون أسراب الطيور المهاجرة ويقتلونها بإسراف وطرق وحشية عن رحمة قلب هذا الإنسان الشمالي: علي بن معزي العنزي في عرعر... والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com