ظهور السيناريوهات التي ترافق أي حدث مسألة طبيعية في شكلها وإطارها العام وتفاصيلها وقراءاتها نتاج طبيعي لمحصلة خبرة كل شخص واختلاف ذهنيته وما أن هدرت موجات الأزمة المالية العالمية منطلقة من وول ستريت قبل عامين تقريباً حتى انبرت العديد من الأسماء الاقتصادية العالمية اللامعة للحديث عن التوقعات القادمة على العالم والتي غلفها طابع التشاؤم الحاد. وفي مقالة لموسيز نيم رئيس تحرير مجلة فورين بوليسي نشرته صحيفة الخليج رصد فيه أبرز السيناريوهات المتشائمة التي برزت بعيد ظهور تفاصيل الأزمة. وقد بدأها بما توقعه وارن بافيت عن انهيار الاقتصاد العالمي ثم تناول ما طرحه جورج سورس أيضاً الذي شبه انهيار الاقتصاد بمثل انهيار الاتحاد السوفيتي بخلاف آراء لأكاديميين اقتصاديين توقعوا انهيار الدولار وكذلك حدوث فوضى ومشكلات واضطرابات سياسية وأحداث دامية وبعضهم كان يصرخ متخوفاً من الآثار التي ستخلفها الحماية على التجارة البينية العالمية وبالتالي على اقتصاديات الدول النامية تحديداً.
ولكن السيد موسيز ركز على أن كل هذه السيناريوهات الستة الأخطر والتي لم يتحقق شيء منها وأن هناك مبالغات كانت كبيرة بقراءة آثار الأزمة العالمية لدرجة كبيرة بل إنهم لم يستطيعوا توقع الأزمة قبل حدوثها فبالتالي لا يمكن أن يكون لقراءتهم عن آثارها أي أهمية بل إنها فقدت حساسيتها مع الواقع نتيجة عدم مواكبتهم للحدث قبل وقوعه رغم أن هناك تصريحاً لجورج سورس في عام 2006 توقع فيه حدوث أزمة مالية كبيرة ولكن بمعزل عن سيناريوهاتهم السلبية وأنها لم تتحقق. لكن ما يجب أن ننظر له من زاوية أهمية مثل هذه الآراء المتشائمة بأنها أيضاً لعبت دوراً إيجابياً كبيراً بالتأثير على طريقة التعاطي مع الأزمة من قبل الحكومات.
فعندما تطرح مثل هذه الآراء ومن شخصيات ذات ثقل وباع طويل بعالم المال والأعمال عملياً وأكاديمياً فلا بد أنها تؤخذ بالحسبان وتشكل ضغطاً بشكل مباشر وغير مباشر على صانعي القرار في أوروبا وأميركا حتى يتعاطوا مع الأزمة من منطق أكثر حرصاً وبعداً بكل المقاييس. فخطط التحفيز والإجراءات التي اتخذت لو لم تكن بحجم المخاوف التي أطلقت لما أظهرت أثراً سريعاً بعودة النمو للاقتصاد العالمي كما أن المباحثات التي أجريت للوقوف والتصدي للحمائية بعد ظهورها أظهرت أن المخاوف كانت مبررة ولكن المعالجة أيضاً كانت سريعة.
كما أن التنسيق العالمي الذي حدث أفرزته النتائج السلبية المحتملة للأزمة التي لاحقت بالأفق فوراً وبالتالي وجدنا أن هناك خططاً وضعت لدعم الدول النامية والفقيرة أخذت بالحسبان فخففت كثيراً على تلك الدول وبالإضافة إلى تحرك الدعم المالي باتجاه القطاعات الأكثر تضرراً بأحجام كبيرة أثمرت عن إنقاذ المصارف الكبرى من عثراتها خصوصاً أن من سقط منها قبل ذلك يحمل تاريخاً طويلاً ومع ذلك لم يسلم من آثار الأزمة ونقصد على رأسها ليمان براذرز خلاف حجم الاتفاق الذي أقرته مجموعة العشرين بخمسة ترليونات دولار أميركي وما نتج أيضاً من توسيع قاعدة التعاون الدولي الاقتصادي من خلال هذه المجموعة.
فالتقديرات التي رصدت بالخطط الأولى تجاوزت في أمريكا 700 مليار دولار بخلاف ما تم عرضه من خطط لشراء الأصول السامة وكذلك دعم برامج إنفاق حكومي موسع أسهم بتعويض مليوني فرصة عمل فقدها الاقتصاد الأمريكي مع دعم الشركات وتمويلها الذي ساهم بالعودة للتوظيف وفي أوروبا قدمت مبالغ طائلة للمصارف تجاوزت نصف تريليون يورو حتى يتم تعويض نقص السيولة الهائل بخلاف برامج دعم إقراض الشركات الصغيرة والمتوسطة وتحسن أسواق المال وإعادة الثقة تدريجياً للمستهلك والذي بدوره أعاد للنشاط التجاري حيويته رغم أن الناتج العالمي تراجع لكنه عاد ليسجل نمواً يعتبر جيداً بالمقارنة مع معطيات الأزمة.
إن هذه السيناريوهات بالرغم من قتامتها وأنها أصبحت على الأرفف البعيدة في أرشيف الأزمة ووقوعها أصبح صعباً لكنها انعكست بإيجابيات كبيرة أسهمت برفع سقف الحلول التي أثمرت عن عودة سريعة للاقتصاد العالمي لتحقيق معدلات نمو أفضل من أي توقعات لها ومن هنا نستطيع القول إن القراءات التي لا نستهويها ونرى بأنها أكبر من حجم الحدث بعد معالجته هي نفسها جزء من مقومات الحلول لأنها أعطت تصورات تستوجب حلولاً واسعة النطاق حتى لا نصل للأسوأ.