هناك توجهان بديلان يهيمنان على المناقشة الحالية بشأن إصلاح القطاع المصرفي: إما التفتيت أو التنظيم. ويعود الجدال إلى الأيام الأولى من عمر «الصفقة الجديدة» التي أقرها رئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت، والتي ألّبَت «منتهكي الثقة» ضد الجهات التنظيمية.
وفي القطاع المصرفي كان الفوز في النهاية لمنتهكي الثقة بفضل قانون جلاس - ستيجال الصادر في عام 1933، الذي فصل بين الخدمات المصرفية التجارية والخدمات المصرفية الاستثمارية، وضَمَن الودائع المصرفية. ومع التفكيك التدريجي لقانون جلاس - ستيجال، ثم إلغائه نهائياً في عام 1999، انتصر المصرفيون على كل من منتهكي الثقة والجهات التنظيمية، مع احتفاظهم بالتأمين على الودائع في البنوك التجارية. وكان هذا النظام غير الخاضع للإشراف إلى حد كبير هو الذي انهار في عام 2008، وأدى انهياره إلى تداعيات عالمية خطيرة.
إنَّ حل مشكلة الخطر الأخلاقي - احتمالات خوض المجازفين المؤمَّنين ضد الخسارة للمزيد من المجازفات - يكمن في صميم محاولات منع انهيار مصرفي آخر. ففي أغلب البلدان إذا أفلس البنك الذي أودع به أموالي فإن الحكومة، وليس البنك، هي التي تعوضني. فضلاً عن ذلك فإن البنك المركزي يؤدي وظيفة «الملاذ الأخير للإقراض» بالنسبة للبنوك التجارية التي تُعَد «أضخم من أن يُسمَح لها بالإفلاس». ونتيجة لهذا فإن البنوك التي تتمتع بالتأمين على الودائع والقدرة على الوصول إلى أموال البنك المركزي تعطي نفسها حرية المقامرة بأموال المودعين؛ فهي «بنوك مُلحَق بها نوادي قمار» على حد تعبير جون كاي.
وفي ظل مقترحات أوباما - فولكر، فمن المفترض أن تُمنَع البنوك التجارية من الانخراط في المتاجرة بالأصول المصرفية - المتاجرة بحسابها الخاص - ومن امتلاك صناديق الوقاء وشركات الأسهم الخاصة. فضلاً عن ذلك فإن حيازاتها من الأدوات المالية المشتقة سوف تكون محدودة، كما اقترح أوباما ألا يحتفظ أي بنك تجاري بأكثر من 10 % من الودائع الوطنية. وتتلخص الفكرة الرئيسية هنا في الحد من المجازفات التي قد تخوضها أي مؤسسة مالية تدعمها الحكومة الفيدرالية.
إنَّ التوجُّه التنظيمي البديل، الذي يروج له بول كروجمان الحائز جائزة نوبل ورئيس هيئة الخدمات المالية البريطانية أدير تيرنر، يسعى إلى استخدام التنظيمات للحد من خوض المجازفات من دون تغيير بنية النظام المصرفي. إن ابتكار مجموعة جديدة من التنظيمات من شأنه أن يزيد من متطلبات رأس المال للبنوك، وأن يحد من حجم الديون التي يمكنها أن تتعامل معها، وأن يساعد في إنشاء وكالة الحماية المالية للمستهلكين لحماية المقترضين السذج من الإقراض الجشع.
إنها ليست مسألة إما هذا أو ذاك؛ ففي شهادته أمام لجنة التنظيم المصرفي التابعة لمجلس الشيوخ في أوائل شهر فبراير - شباط، أقَرَّ سيمون جونسون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نهج فولكر، ولكنه أيضا فضل تعزيز نسب رأس المال لدى البنوك التجارية بشكل كبير - من نحو 7 % إلى 25 % - وتحسين إجراءات الإفلاس من خلال «إرادة الحياة»، وهو ما من شأنه أن يجمد بعض الأصول دون غيرها.
إن العديد من تفاصيل حزمة أوباما من غير المرجح أن يكتب لها البقاء (هذا إن نجحت الخطة ذاتها). ولكن هناك العديد من الحجج القوية ضد المبادئ التي يقوم عليها نهجه. ويشير المنتقدون إلى أن «الإقراض القديم البسيط السيئ» من جانب البنوك التجارية كان مسؤولاً عن 90 % من خسائر البنوك. والحالة الكلاسيكية هنا هي حالة رويال بنك أوف اسكتلندا البريطاني، وهو ليس بنكاً استثمارياً.
كانت الخسائر الرئيسية التي تكبدتها البنوك التجارية متركزة في سوق العقارات السكنية والتجارية. والعلاج هنا ليس في تفتيت البنوك، بل في الحد من القروض المصرفية المقدمة لهذا القطاع، ولنقل من خلال إرغام البنوك على الاحتفاظ بنسبة معينة من الرهن العقاري في سجلاتها، ومن خلال زيادة رأس المال الواجب الاحتفاظ به في مقابل القروض للعقارات التجارية.
فضلاً عن ذلك فإن العديد من البلدان التي تتبنى أنظمة مصرفية متكاملة لم تضطر إلى إنقاذ أي من مؤسساتها المالية؛ فالبنوك في كندا لم تكن أضخم من أن يُسمَح لها بالإفلاس، بل كانت فقط أكثر إملالاً من أن تفلس. ولا شيء في كندا قد ينافس قوة وال ستريت أو سيتي أوف لندن. ولقد مكن هذا الحكومة من السباحة ضد تيار الإبداع المالي وإلغاء التنظيمات. أما البلدان ذات القطاعات المالية المهيمنة سياسياً التي تتنافس على تولي الزعامة المالية العالمية، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، فقد تكبدت أفدح الخسائر.
وهذه هي النقطة التي أغفلها المنظمون من حسني النوايا. فالمعركة بين التوجهين هي في الأصل مسألة متعلقة بالسُلطة، ولا علاقة لها بالاقتصاد المالي الفني. وكما أشار جونسون في شهادته فإن الحلول التي تعتمد على إشراف تنظيمي أفضل وأكثر ذكاءً واتخاذ الخطوات التصحيحية تتجاهل القيود السياسية المفروضة على التنظيمات والسلطة السياسية التي تتمتع بها البنوك الضخمة.
ثمة عنصر مقارنة آخر مثير للاهتمام مع الصفقة الجديدة؛ فقد نجح روزفلت في تمرير قانون جلاس - ستيجال عبر الكونجرس في غضون مائة يوم من تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة. أما أوباما فقد انتظر أكثر من عام قبل أن يقترح إصلاحه المصرفي، ومن غير المرجح أن يتم تمرير ذلك الإصلاح. ولا يرجع هذا إلى أن الأزمة المصرفية في عام 1933 كانت أعظم من أزمة اليوم فحسب؛ بل لأن جماعات الضغط الأشد قوة والأعظم نفوذاً الآن أصبحت قادرة على الحيلولة دون تحول المقترحات إلى سياسات مطبقة. وإذا كان للإصلاحيين أن يفوزوا فلا بد أن يكونوا مستعدين لمقاتلة أقوى جماعات المصالح الخاصة في العالم.
* عضو مجلس اللوردات البريطاني
خاص (الجزيرة)