وعت الذاكرة الصغيرة صورة رجل منكب على كتبه، قارئاً، وفاحصاً، كاتباً، منقِّباً، سائلاً وحامل ورقة، جالساً لمن هم أكبر منه سناً يسأل ويدوّن، ويرحل.. يغيب ثم يعود.
ووعت الذاكرة أنه كان يختلف عن غيره بالرغبة في التدوين والكتابة، كأنما لديه ما عدته حينها سراً من الأسرار.
كبرت الطفلة الصغيرة وعرفت السر من خلال معرفتها لما كان يفعله ذلك الرجل، فاسمه على صدور كتب مرتكزة في المكتبات، واسمه يعترض طريقها، فالعودة إليه حتمية؛ فمجال التخصص الأكاديمي يتطلب الرجوع إلى مراجع بعينها من مثل: «معجم معالم الحجاز» و»معجم قبائل الحجاز» و»قلب الحجاز» و»الرحلة النجدية» وغيرها.
عرفت الرجل في طفولتي عطوفاً ودوداً، محباً، وعرفته في شبابي باحثاً ومؤرِّخاً وأديباً ونسّابة، وظل بين المعرفتين معرفة العلاقة الأسرية، ومن خلالها ظل عاتق بن غيث البلادي حاضراً في حياتي حتى وفاته - رحمه الله - في الأسبوع الماضي، فقد كنت أقرأ له، ومن جانبه كان يحرص على إهدائي كل مؤلَّف له، وسائلاً عن حالي حريصاً على متابعتي وكان آخر أمره معي مهاتفته لي مهنئاً بفوزي بجائزة الأمير سلمان لدراسات تاريخ الجزيرة العربية.
ورغم هذه العلاقة لا أعتقد أنني أستفدت منه الفائدة المطلوبة، فعلم مثله تزيد مؤلفاته عن الأربعين كتاباً ما بين رحلة وتحقيق ومشاهدات وانطباعات وتأليف أعطت له مكانة علمية مميزة يعرفها الكثير من جيله وجيلي، وكان من المفترض عليّ أن أستزيد من علمه الكثير وأن أحرص على تعلّم أمور كثيرة منه.
وأشد ما يؤلم في وفاة عاتق بن غيث البلادي أنه غاب عن الحياة دون أن يُكرَّم، وهو يستحق ذلك لما قدَّمه وأسهم به من أعمال تصب جميعها في تاريخ الجزيرة العربية، ولعل أقل ما يُقدَّم له حالياً ندوة تُعقد في نادي مكة للتعريف به وبمؤلفاته وأن يُطلق اسمه على أحد شوارع مكة باعتباره أحد أبنائها من العلماء المميّزين.
لأبي غيث دعاء بالرحمة والمغفرة وأن يسكنه منازل الصديقين الأبرار.