ذات مساء بارد أخذتني النشوة، وحلقت في خيالٍ أسطوري، قلت لو كان لي جناحان أطير بهما عالياً فوق الغيوم لأرى المدائن المشعة والأبراج العالية والبساتين الغنَّاء وأرافق الطيور، هززت رأسي بعدها بتعجُّب.....
.....ثم أخذت أحك رأسي حتى تساقطت منه بعض الشعيرات، بقيت أفعل ذلك مراراً، حتى أصبحت غائباً.. وأنا أسترسل بحلمي وخيالي، لم أصح من واقعي هذا إلا عندما أخذت قطرات المطر تدغدغ زجاج نافذتي، ثم تنساب بهمس عازفة سمفونية الشتاء الآتي، الليل بدأ ينساب في الأركان والزوايا بلا استئذان.. بينما تنساب أشعة الفانوس الشاحبة على وجهي، عادت ذاكرتي إلى الوراء، تذكرت وجه أبي البهي الذي أثار في نفسي الدهشة، تذكرته وهو يعارك زمنه بقوة، وبتحدٍ وفق إشارات ورموز احتشدت في داخل سنوات تطوره ونضوجه الإنساني.. بدءاً من تراب البيد وأحجارها القاسية.. إلى حائط المدينة والوجوه القرمزية، أفقت ثانية على صوت الرعد الذي يحمل بشرى المطر، الريح بدأت تهب معلنة تأججها وفق منظومة صوتية غاية في القوة، تتلوى هي الريح، وهي تدك النخلة الوحيدة في زاوية الحوش، هكذا هو أنا مليء حتى الإغراق بالملموس واللا محسوس من الأجساد والصور والزخارف، أُخبئ الكثير من الأسرار التي تلوح لي بخيط رفيع منها، ما أن تستقر الأشياء داخل كياني حتى تتسرَّب ثانية هاربة بغنج الأنثى، إلى الطرقات البعيدة، كل صباح أطل على المدينة لأخترق تأملها الفجري، وتزاحم قبابها الساكنة، وأبوابها المغلقة الحزينة، أُحدّث نفسي.. قد أكون نسيجاً محيراً، لأني أمزج الأشخاص والأبعاد حولي بمنظومة زخرفية متراصة تتسرَّب بين الأعمدة الرخامية والأبواب التراثية، محققاً بذلك نسيجاً بصرياً يفصل بين عناصر الصورة العاطفي الذي يدلل على بروز الأجساد والأرواح وتلك الجدران.. ثم ينتشر مثل الضوء، التشخيص الذي أستعمله، وأعتمده بحرص شديد لا أريد له التدفق السريع.. حتى لا يفقد إيقاعه السحري، أحاول الحفاظ على وحدة سرد الأشياء، أذهب بعيداً في رصد الأمور ملغياً كل الفواصل والحواجز المكانية والزمانية حتى لا أصنع أسطورة، مستخدماً الرمز كوحي يأخذني بعيداً إلى رؤية متعددة تفرش أمامي مشهداً ضارباً في تاريخ الأشياء بكل عبقها الكينوني والفلكلوري، أفقت للمرة الثالثة.. لكن هذه المرة بصدمة عنيفة هزَّت كل كياني، انتفضت بقوة كمن لدغته عقرب، تذكرت كل هذه الأشياء التي أعيها وأدركها وأجيد التفاعل معها، وتذكرت حينها كل تلك الفراغات التي لم أعشها بهدوء، والتي ملأت جيوبي فزعاً، حتى إنني لم أعد أملك سوى فانوس زجاجي وليالٍ أقطعها بالسهر ومقهى ورصيف، تعثرت خطاي وارتبكت طرقاتي، حتى أصبحت غير مستقر كالظل، عند النافذة التي يضربها المطر بحدة، قلت: سأترك الأشياء العتيقة في منافيها، وأُدثر أحلامي المائلة، بمعاطف التحدي، لأن وجهي يليق بالمطر ولا يليق بالتقهقر، سأبصر الأشياء، وسأتجه نحو الرابية، الجفاف الذي لف روحي طويلاً سألوح له بيدي، وسأقوم من السرير وسأمضخ الحديد، وأنا جاد، ومعركتي ستكون حقيقية، سيتحرك الجبل الذي في داخلي، وسيكون معي كتاب العمل، وقصة التحدي، وقصيدة الانتفاضة، وسأخرج من مشيمة الخواء إلى قشرة الضوء، هذه المرة سأحمل الصاعقة، وأجلس على الماء، سأتقدم وسأتحرك مثل نهر يتدفق.. إشاراتي الخضراء لن تنطفئ، سأهبط على كوكب الأرض من جديد، ناشراً جناحي.. في رأسي عقل، وفي صدري ذراع حديد، وسأغرز رجلي في تراب المعركة الحياتية، هذا ما صنعه لي العقل عند الإفاقة، فمنبه ساعتي دقَّ في الخامسة صباحاً، لا وقت للنوم عندي.
إشارة:
اسمي (هليل) وأشباهي كثيرون، في المسافة المحصورة بين هجاء نفسي ومديحها، وجدتني أشمر عن ساعدي، لإبداء عراك الحياة المقلق الذي انتابني، فجأة وجهت لكمات عدة إلى رأسي لأمنع عنه فرصة التقاط فكرة تطرحني أرضاً ثانية، فأعلن عن هزيمة لا أريد أن أعيشها مرة أخرى، سيثق بي وطني لأني استلهمت من ضوء نافذته بصيصاً لقصيدة التحدي الكبير، لن أستند على سنواتي الكسيحة، فأنا لا أود الاتكاء على حلم مسكين، ولن أضع حفنة التراب في أذني، وسوف لن أجلس على الشاطئ تحت شفرة الحياة، أو أتوجه صوب قوس قزح حزين كان ينتظرني، ثم أنطلق نحو البعيد، سأعبر لكن بحذر، وسأتذكر بأن العطور المخبوءة في الأدراج تنتظر إشارة الانطلاق نحو الفضاء.
ramadanalanezi@hotmail.com