لا أعرف أمة من الأمم يشكِّل العنف جانبا من إرثها وذاكرتها ومخيلها الشعبي كالأمة العربية, حتى بات البطش والقتل والضرب والجلد والصفع من المفردات الأزلية في نسغ تاريخنا وأدبياتنا. والمتصفح لكتب التراث سيقرأ حتما عن هذا الكم الهائل من هذا (الإرث المدمر)؛ فالخليفة (المستعين بالله) أمر بصلب أحد جلسائه لأمر ما، والخليفة (المستنصر بالله ) صفع الشاعر (فلانا)؛ لأنه لم يحسن مديحه، بينما (الوالي) الفلاني استشاط غضبا فرمى بمحبرته رأس الشاعر (علان) - آه أين هو من شعراء اليوم؟! - فسالت الدماء غزيرة ساخنة، ولم يكن أمام الشاعر إلا الاستكانة والخضوع، والتلذذ بدمه المراق طمعا في رضا الحاكم (وما لجرح إذا أرضاكم ألم)!
وفي تاريخنا العربي تظهر صور البطش والقتل جلية كقرص الشمس، باعتبارها الأداة الفاعلة (لترويض) المواطن العربي الغلبان فلا يتكلم، أو يرفع سبابته داعيا، أو محتجا، أو حتى طالبا من ربه أن يرفع الظلم والحيف عنه.
يبدو أننا الأمة الوحيدة بين الأمم التي يشكِّل فيها العنف جانبا مهما في مفهوم الحاكم العربي لمعارضيه منذ الحكم الأموي والعباسي والفاطمي والمملوكي (وخوازيق) الحكم العثماني، وقد أضافت ثوراتنا العربية (المجيدة)، التي جاءت لتحررنا من الظلم والطغيان والاستبداد الذي أذاقنا إياه المستعمر، أساليب جديدة كالسحل وتعليق المشانق ودس السم للمناوئين (وثورة حتى النصر)، النصر على المواطن العربي الغلبان لا غير!
واللافت أن مناهجنا التعليمية هي الأخرى، التي يفترض فيها أن تحمل قدرا من التربية السوية وغرس القيم المثلى، قد رسخت هذا المفهوم، ورأت فيه ظاهرة بلاغية جديرة بالدرس؛ ولذا قالوا: «لا يتعلم المرء إلا راغبا أو راهبا»، لماذا «راهب» هذه؟ ليقولوا لنا: ليكن راغبا أو غير راغب.. فالخوف لا يعلم!
أذكر حين كنتُ طالبا تعيسا يتلقى العلم على المقاعد الخشبية القديمة أن مدرس اللغة العربية كان مغرما بأمثلة الضرب والصفع وأخواتها، فما إن يبدأ الدرس حتى يكتب: (ضرب عمرو زيدا، أكل الذئب الشاة، هرب سعيد من المدرسة)، وكأن لغتنا العربية التي «وسعت كتاب الله لفظا وآية» قد ضاقت مفرداتها؛ فلم تجد بديلا عن (ضرب) وأخواتها!
وفي منهج الأدب يطل العنف بسحنته الرمادية، بدءا ب «ألا لا يجهلن أحد علينا»، وانتهاء بخطبة الحجاج الدموية: «إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها»، «والله لأحزمنكم حزم السلمة»، «ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل».. ترى أي بلاغة في خطبة تدعو إلى القتل والضرب؟ مع أنني أعتقد أن (الحجاج) تلميذ مبتدئ في مدرسة العنف العراقي اليوم!
تسألونني، لماذا نحن العرب قلقون، خائفون، غير منتجين، أقول لكم ببساطة: من (ضرب، يضرب، ضربا) وبنات عمها! الجندي الخائف لا ينتصر، والعامل الذي تعشعش في مخيلته صور المخافر والسجون والكبت لا ينتج. في عالم العنف لا تنمو شجرة الحرية البهية، التي تقودنا إلى فضاء الإبداع والتجلي في شتى مناحي الحياة؛ ولذا بقينا شعوبا مستهلكة، وعالة على غيرنا من الأمم التي ندعو عليها صباح مساء (بأن يشتت الله شملهم). الشعب العربي رهين لقاموس العنف، والقتل، والجلد، والسجن، ولولا خشيتي من سطوة الرقيب (الانكشاري) في داخلي - ألا ترون لو أنني أنا الآخر خائف - لاسترسلت في حديث لا أعرف أحدا فيما قرأت على الأقل قد تطرق إليه، مع أنني أعتقد أنه أحد أهم معوقاتنا الحضارية والإنسانية والإبداعية!!
alassery@hotmail.com