Al Jazirah NewsPaper Tuesday  23/02/2010 G Issue 13662
الثلاثاء 09 ربيع الأول 1431   العدد  13662
 
في أمسية أدبي الرياض عن الاستثناء «القصيبي» وسط حضور نوعي وجماهيري فاق التوقعات وشهد توزيع كتاب الاستثناء..
المالك يقرأ مسيرة القصيبي عبر منجزاته الوطنية.. ويكشف: الصحافة خذلت القصيبي في وزارة العمل

 

«الجزيرة الثقافية» - سعيد الدحية الزهراني

في ليلة استثنائية بمحاضرها الاستثنائي.. ورمزها المستثنى.. وكتابها الاستثناء.. نظم نادي الرياض الأدبي بمركز الملك فهد الثقافي مساء الأحد المنصرم أمسية متفردة على مختلف المستويات أحياها رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك.. متحدثاً عن الرمز غازي القصيبي.. وذلك بمناسبة صدور كتاب (الاستثناء.. غازي القصيبي) وهو أول الإصدارات من سلسلة إصدارات (الجزيرة الثقافية).

أمسية الاستثناء القصيبي حفلت بحضور ثقافي وإعلامي نوعي.. صاحبه حضور كثيف من محبي ومتابعي الرمز القصيبي.. فاق التوقعات التنظيمية، حيث نفدت نسخ كتاب الاستثناء وكتاب المجلة العربية خلال ربع الساعة الأولى من بداية الأمسية إضافة إلى امتلاء القاعة عن آخرها واضطرار قرابة الضعف من الحضور إلى متابعة الأمسية وقوفاً.

وفيما يلي نص محاضرة الأستاذ المالك التي نظمها نادي الرياض الأدبي برعاية معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز خوجة:

ليس بيني وبين الدكتور غازي القصيبي تلك العلاقة الشخصية غير العادية كما قد يتبادر إلى ذهن بعضكم، فيتصوّر اعتماداً على اهتمامي الصحفي بنشاطه، بأنّ هناك علاقة تتسم بشيء من الخصوصية، ما يعني أنّ هناك ما يمكن أن أقوله مما أعرفه ولا تعرفونه عن الدكتور القصيبي في هذه الأمسية الجميلة التي يجمعنا بها اسمه وعطاءاته والذكريات الجميلة عن مسيرته، وما صاحبها من تطوّرات في كلّ محطاتها التعليمية والعملية، إلى جانب دوره الفاعل والمؤثّر في الحراك الثقافي خلال حقبة زمنية غير قصيرة، كانت نجوميته وشهرته غير غائبة في كلّ هذه المجالات.

وفي تصوّري أنّ من بين الحضور وبينهم زملاء وأصدقاء للدكتور من يملكون معلومات مهمة وثريّة، يمكن أن يضفي بها قائلها إلى هذه الأجواء شيئاً ذا قيمة عن الدكتور الغائب الحاضر كاستثناء في نادي الرياض الأدبي، فضلاً عن المثقفين الذين واكبوا نجاحاته، وتفاعلوا معها، وأدركوا أهميتها، فكتبوا ما كتبوا عنها، وقدّروا قيمتها وقيمة صاحبها، فجاءوا إلى هنا للتعبير عن شيء من الوفاء، في تناغم جميل يُحسب لهم وله معاً.

في كتابه حياة في الإدارة، يتحدث الدكتور القصيبي - كما تعرفون - عن سيرته العملية، ويبوح ببعض أسرارها، ويقول ما لم يقله من قبل عن إنجازات شارك فيها، وآراء تبنّاها، ومواقف تصدّى لها، ودعم ملكي وأميري حصل عليه، دون أن يغفل ما حفلت به فترات عمله بما يمكن أن توصف بأنها كانت مراحل إحباط وتعثّر وفشل، في مقابل كثير من النجاحات والإبداع والإنجازات التي اقترنت باسمه، وقد تميّز القصيبي في مذكراته باعتماده على شهود كبار بعضهم ما زالوا بيننا أحياء، وبعضهم الآخر لم يمت إلاّ بعد أن قرأ الكتاب واطمأن على أنّ ما نُقل على لسانه كان صحيحاً وسليماً، وموافقاً لما يعرفه عن التطوّرات التي أشار إليها المؤلِّف في كتابه.

والدكتور غازي يعترف في إحدى المناسبات الثقافية التي كرم فيها بأنه لا يرى نفسه مغروراً إذا كان معنى الغرور الشعور بالاستعلاء، لكنه، وفي مقابل ذلك يضيف بأنه - بطبعه - ليس متواضعاً إذا كان معنى التواضع إخفاء مواهبه إرضاء لغير الموهوبين، وهو الشاعر والروائي والقاص والكاتب والوزير والدبلوماسي والأستاذ في الجامعة والإداري في مواقع عدة. وبالتالي، فإنه يتعذر عليه أن ينكر هذه الحقيقة، ويتنازل عن هذا الحق، كي لا يُتَّهم بالغرور وبعدم التواضع، إرضاء لمن وصفهم بغير الموهوبين.

وهو بهذا إنما أراد أن يعبر عن شعوره بالمرارة على ما يوجه له من تهم، أبسطها وأقلها اتهامه بالغرور وعدم التواضع، وهي اتهامات - وإن نفاها - إلا أن كثيراً من الناس أخذ هذا الموقف أو هذا الانطباع عن الدكتور غازي اعتماداً على حضوره الدائم في الإعلام، حيث إن صورته وآراءه وعطاءاته الثقافية المتنوعة تكاد لا تغيب لأيام عدّة عن الصحف، مثلما هو الوضع مع بعض الوزراء أو الشعراء أو الكتاب الآخرين.

بدأت علاقتي بالدكتور غازي القصيبي - أول ما بدأت - حين اتفقتُ معه على إعداد صفحة أسبوعية في الجزيرة، وكان آنذاك يعمل في كلية التجارة بجامعة الملك سعود (كلية العلوم الإدارية فيما بعد) أستاذاً ثم عميداً للكلية، كانت الصفحة تحمل اسم (الحقيبة الدبلوماسية)، يكتب موادها كاملة على شكل موضوعات متنوعة تعنى بالتطورات السياسية والاقتصادية على مستوى العالم، مع تركيز شديد على ما يخص القضية الفلسطينية، كغيره من الأسماء الكبيرة في الكلية ذاتها التي استكتبتها آنذاك، ومنها الدكتور سليمان السليم والدكتور محسون جلال - رحمه الله - وغيرهما، ثم تطورت العلاقات من خلال الاهتمام بنشر الجديد من أشعاره، بإخراج مميز ومساحات كبيرة تصل إلى صفحة كاملة لكل قصيدة حاملة صورته وتوقيعه، ومع توقف صفحة الحقيبة الدبلوماسية ظل يمد صحيفة الجزيرة ببعض المقالات من حين إلى آخر تعليقاً على حدث مهم، أو تعبيراً عن وجهة نظر في قضية من القضايا التي يتحدث المجتمع عنها بأسلوب جميل وعبارات رشيقة وأفكار تأتي كما لو أنها تعبر عن هموم أفراد هذا المجتمع بموضوعية وصدق.

سأقصر حديثي على الجانب العملي والسيرة الوظيفية الأهم في حياة الدكتور غازي القصيبي، ولن أتحدث عنه بوصفه شاعراً وروائياً وكاتباً ومفكراً، فقد عبّرت عن هذا الجانب باختصار شديد في مقدمتين كتبتهما لكتاب (الاستثناء) لناشره صحيفة الجزيرة وكتاب (قصائد أعجبتنا من الدكتور غازي القصيبي) لناشره المجلة العربية، والكتابان بين أيديكم الآن، وأكتفي بما كتبته فيهما، بأمل أن يسمح وقت هذه الأمسية الجميلة لنستمع إلى مشاركات أخرى من بعض الحضور عن هذه الشخصية المبهرة تقديراً لعطاءاتها وتفوقها.

عُيِّن القصيبي وزيراً للصناعة والكهرباء في سنة كانت المملكة تشهد فيها نمواً مطرداً وتمدداً غير طبيعي في تعمير بعض المساحات الخالية في جميع مدن وقرى المملكة التي لم يكن قد تم تعميرها بعد، بينما لم تكن شركات الكهرباء تملك من الإمكانات ما يسمح لها بتوفير الطاقة الكهربائية لهذه الوحدات السكنية وغير السكنية، فضلاً عن أن شركات الكهرباء كانت تعاني من نقص في الكوادر الإدارية والفنية، وتواضعاً في التنظيم والتخطيط، وعجزاً في الموارد المالية؛ ما يعني أن الوزير الذي كان سعيداً بثقة تعيينه وزيراً للكهرباء، كان أمام هذا التحدي الكبير يبدو وكأنه مكتوف اليدين، عاجز عن توفير الحل، ما لم يقدم على خطوات استثنائية وغير مسبوقة لاختصار الوقت وإمداد الكهرباء ودون انقطاع لكل مَنْ يتقدم بالتماس إلى شركات الكهرباء لإيصالها إلى منزله أو مكتبه.

كانت مدينة الرياض - على سبيل المثال - تعاني من انقطاع الكهرباء يومياً وبالساعات، وكانت صحيفة الجزيرة إحدى ضحايا هذا الوضع المأساوي؛ فقد توقفت ذات يوم عن الصدور يوماً كاملاً؛ لأن ذلك اليوم كان هو الأسوأ في عدد ساعات الانقطاع مقارنة بالأيام الأخرى التي كان يتأخر فيها صدور الصحيفة بسبب انقطاع الكهرباء لساعات محدودة، وكان مَنْ تنقطع عنهم الكهرباء أرحم بكثير من أولئك الذين شيَّدوا منازل لسكناهم لكنها بقيت سنوات بلا كهرباء، ولا بد أن الوزير غازي أمام هذه الحالة قد شعر بحجم المشكلة، وعانى منها كثيراً، وتألم -بشكل خاص- لحال الطلاب الذين كانوا يستعدون للامتحانات وسط حر شديد وبلا كهرباء، ولا أستبعد أنه فكر في طلب إعفائه من العمل لولا الدعم السخي لهذا القطاع الذي قدمته الدولة لمعالجة المشكلة على النحو الذي أصبح معروفاً وجزءاً من تاريخ الكهرباء في المملكة فيما بعد.

وفي ظل هذه الأجواء دعاني الدكتور غازي مع بعض الزملاء في الأيام الأولى من تسلمه للوزارة إلى اجتماع عاجل ومهم في مكتبه بالوزارة، بحضور المدير العام لشركة الكهرباء المهندس الطوخي - رحمه الله - ومجموعة من المهندسين في الشركة، وكان مقر الوزارة عبارة عن فيلا صغيرة ومتواضعة مؤجرة للوزارة، وتقع خلف إدارة تعليم البنين في شارع الجامعة، كنت والزملاء قد دعينا من الوزير على ما يبدو لنكون شاهدين على اهتمامه وحرصه على معالجة الأمر، سأل غازي مدير عام الشركة في بداية الاجتماع: «كيف يمكن لنا أن نعالج هذه المشكلة المزمنة بأسرع وقت ممكن؟»؛ فأجابه بما يشبه اليأس، بأنه ما من حل يمكن تحقيقه؛ فرد عليه: «حتى ولو اشترينا مكائن جديدة ذات طاقة كبيرة؟»؛ فقال مدير عام الشركة: «هذا النوع من المكائن يُصنع بالطلب، ويستغرق من الوقت لصناعتها وشحنها وتركيبها ما يقارب السنتين، ويضيف أنها باهظة التكاليف، وأن الشركة غير قادرة مالياً». وتحدَّث الوزير لأول مرة عن إمكانية دمج شركات الكهرباء في المدن والقرى في شركة واحدة، يسبقها للوصول إلى هذا الخيار شركة مجمعة من شركات كل منطقة من مناطق المملكة الرئيسة؛ لتكون فيما بعد شركة واحدة على مستوى المملكة كما هو معمول به في أوروبا؛ فأيَّد مدير عام الشركة الفكرة، لكنه تحدَّث عن المعوقات، التي من بينها الملاك وأعضاء مجالس الإدارات والفوارق في الأصول والإيرادات والأرباح بين شركة في مدينة كبيرة وأخرى في مدينة صغيرة.. ثم انفضَّ الاجتماع بانتظار ما سيفعله الوزير القصيبي.

تحرك الدكتور غازي القصيبي سريعاً، واستنفر كل إمكاناته وعلاقاته وثقة القيادة به وحصل من الملك خالد وولي العهد الأمير فهد -الملك فيما بعد- على دعم مالي كبير مكَّنه من زيادة توليد الطاقة الكهربائية بما يكفي ويزيد على حاجة البلاد، ووافق له على دمج شركات الكهرباء في شركة واحدة، وأعفيت مجالس إدارات الشركات القائمة من العمل، وشكلت مجالس جديدة لكل منطقة بالتعيين ريثما يتم الدمج، وتم إثر ذلك منح الملاك أسهماً إضافية ترضية لهم على ما سماه بعض الملاك (تأميم) مع ضمان أرباح سنوية لهم، وبدأ العمل لتنظيم شركة الكهرباء إدارياً باتجاه العمل على توفير الطاقة التي تحتاج إليها البلاد، وما هي إلا فترة قصيرة نسبة إلى حجم المشكلة وصعوبتها وخطورتها حتى كانت الكهرباء متاحة ومتوافرة ودون انقطاع للجميع.

كانت الجزيرة مساندة لهذه الخطوات، داعمة لها، مرافقة للوزير، وشريكة معه في نقل هذه التطورات إلى الجمهور، وكنت قد أوكلت للزميل حمد القاضي الذي كان يعمل محرراً في الجزيرة مهمة متابعة نشاط وزارة الصناعة والكهرباء والوزير القصيبي، وأذكر - إن لم تخني الذاكرة - أنه صرح ل(الجزيرة) في بداية تدخله الجراحي لتعميم الكهرباء بما معناه: لن يهدأ لي بال وهناك بيت أو مزرعة في أي بقعة من المملكة لم تصلها الكهرباء.

ومع كل هذا، فلم يسلم الدكتور غازي القصيبي من مواجهة مضادة لخطواته تلك من قبل مجالس إدارات شركات الكهرباء وملاكها الكبار، غير أنه استند إلى دعم الملك خالد وولي عهده الأمير فهد - الملك فيما بعد - رحمهما الله، ومضى في طريقه بثقة يتحمل الاحتجاجات والتشكيك إلى أن تبين للجميع سلامة هذا الإجراء وتوافقه مع المصلحة العامة، فهدأت الحملة، وقد سمعت فيما بعد بنفسي من كبار الملاك من يثني على هذه القرارات ممن كان معارضاً ومحتجاً عليها، بعد أن تبين له أن أي ضرر لم يمس حقوقه في الشركة، وأن الدعم الحكومي الذي تجاوز عشرين ملياراً من الريالات ما كان بمقدور الملاك ضخه لمعالجة الوضع المأساوي الذي كانت تمر به شركات الكهرباء، التي كانت عاجزة عن إيصال الكهرباء إلى أجزاء كبيرة من مدن المملكة وقراها التي كانت تعيش في ظلام دامس، فيما كان انقطاع الكهرباء يتم بشكل دائم ومتكرر عن المناطق التي تصل إليها الكهرباء، فضلاً عن عدم قدرة الشركة على مواجهة التوسع في العمران بتوفير حاجته من الكهرباء، وهكذا سلََّم الملاك الأمر للوزارة ولوزيرها غازي القصيبي مع كثير من التأييد والمساندة وعدم التدخل في سياساتها.

هذا عن الكهرباء، أما عن وزارة الصحة - وهي الحقيبة الوزارية الثانية التي تسلمها- فقد مرَّ الدكتور غازي القصيبي بتجربة أخرى لم يكن حاله معها بأحسن من سابقتها، فقد وجد أن المستشفيات والمراكز الطبية تمر بحالة من انعدام الرضا - أو شبه ذلك - عنها، وعلى كل المستويات، بسبب أن ما يُقدَّم من خدمات علاجية للمرضى ومراجعي المستشفيات لا يلبي المأمول من حيث المستوى والطموحات، كما أن المستشفيات والمستوصفات والعيادات الحكومية لم تكن - آنذاك - قادرة بشكل كامل على استيعاب كل الحالات المرضية التي تراجعها في جميع مناطق المملكة، فيما كان الملك فهد - رحمه الله - وولي العهد الأمير عبدالله - الملك حالياً- يطالبانه بحل جذري ينهي معاناة الناس ويوفر لهم فرصاً علاجية مناسبة، بينما في الجانب الآخر، كانت الشكاوى في الصحافة عن تواضع الخدمات الطبية تتزايد بشكل مقلق، وأصوات الاحتجاجات والتذمر تقرع باب مكتب الوزير وتصل إلى أسماعه.

بدأ الدكتور القصيبي جولاته المكوكية السرية والمفاجئة للمستشفيات في مختلف المدن والقرى، يتنكر أحياناً على أنه يعاني من حالة مرضية مفاجئة، ويظهر أمام طبيبه بشخصية المواطن المريض الذي لا يملك من يتوسط له أو يقدم له شفاعة من أجل الاهتمام به والعناية بحالته، بقصد التعرف على مستوى الخدمات التي تقدم للمرضى، بما في ذلك مستوى الطبيب المعالج ومساعديه، ومدى توفر الدواء من عدمه، وفي كل زيارة ومع كل جولة كانت الصورة المغيبة عن مستوى الخدمات الطبية أمام الوزير ومساعديه واضحة، والأفكار المناسبة لمعالجتها حاضرة.

وضمن برنامج الدكتور القصيبي لتوفير المزيد من الأسرّة لمن يحتاج إليها من المرضى، أسرع إلى شراء بعض الفنادق واستئجار بعض المباني لينشئ فيها مستشفيات ومستوصفات، واستصدر قراراً ملكياً بإنشاء مدينة الملك فهد الطبية بالرياض، وظل دعم الملك فهد له متواصلاً إلى أن أعفي من عمله بوصفه وزيراً للصحة، فحال هذا الإعفاء بينه وبين التمتع حتى بتوقيع عقد إنشاء مباني مدينة الملك فهد الطبية، وغيرها من المنشآت الصحية الجديدة التي ساعدت في التخفيف من الأزمة فيما بعد ولو إلى حين.

ولم يكتف الدكتور القصيبي بذلك، بل إنه وقبل أن يتم صدور الأمر الملكي بإعفائه قام بالاستغناء عن خدمات الكثير من القيادات في الوزارة، وبخاصة بعض مديري الشؤون الصحية في بعض المناطق الذين كان يعتقد البعض من المواطنين باستحالة أن يفكر الوزير القصيبي بالبحث عن بدائل لهم، لكنه فعل ذلك، وحين تسأله عن السبب يجيبك بلا تردد: الجديد يحتاج إلى تجديد، وخلال فترة عمله أشرك المجتمع في تقديم الخدمات الطبية للمحتاجين إليها، فكانت لجنة أصدقاء المرضى، والأوسمة لمن يتبرع بدمه، وما إلى ذلك من المبادرات.

وكان الدكتور القصيبي ذكياً ولمَّاحاً، إذ عرف أنه بدون إعلام قوي وفاعل يسانده في توجهاته لن يبلغ النجاح الذي ينشده، ولن ينجز ما أوكل إليه من مهام، فأقام جسوراً من التعاون مع رؤساء تحرير الصحف، وأشركهم في هذه المسؤولية الوطنية، وطالبهم بالمساندة والدعم، وأمكنه إقناعهم بأهمية الخطوات التي يسعى لترسيخها من أجل خدمات صحية متكاملة وذات مستويات أفضل، ومثلما استخدم الصحافة في تعميم الكهرباء في ربوع الوطن وعلى امتداد مساحته الشاسعة، استخدم الصحافة أيضاً في تمرير برنامجه الإصلاحي في وزارة الصحة، لكن فترة عمله في وزارة الصحة لم تمتد طويلاً كي ينجز كل ما كان يخطط له، فقد صدر أمر ملكي بإعفائه من الوزارة بعد أن سبق أمر الإعفاء بشهرين حديث متواتر بين المواطنين عن أن إعفاءه من عمله وزيراً للصحة أصبح تحصيل حاصل ومسألة وقت ليس إلا.

غاب الدكتور غازي القصيبي عن الوطن بعد إعفائه عشرين عاماً أو تكاد ليعمل سفيراً للمملكة في البحرين ثم بريطانيا قبل أن يعود إلى المملكة وزيراً للمياه ثم وزيراً للمياه والكهرباء فوزيراً للعمل، وكان قد نشر آخر قصيدة وداعية له في صحيفة الجزيرة، في الفترة الأولى من عملي رئيساً لتحرير صحيفة الجزيرة، وهي الرئاسة التي انتهت بعد أكثر من عشر سنوات متزامنة مع إعفائه من العمل في وزارة الصحة تقريباً، لتتزامن عودته للوزارة وعودتي للجزيرة في فترة زمنية ليست طويلة، ولتعود بالتالي بعض قصائده القليلة إلى مكانها في صحيفة الجزيرة، ومن ضمنها قصيدته (حديقة الغروب) التي اختارها فيما بعد عنواناً لديوانه الجديد؟

وقد بقي غازي القصيبي خلال غربته وفياً للوطن، مخلصاً لقيادته، حريصاً على مصلحة مواطنيه، فلم ينأ بنفسه عن هموم الناس, ولم يكن بقلمه غائباً عن دوره ومسؤوليته في الدفاع عن مصلحة الوطن، بل إنه ظلّ حاضراً وبقوة في مواجهة نارية ضد من أراد أن يقوّض الاستقرار ووحدة الوطن، ولا يمكن لأي منا أن ينسى أو تغيب عن ذاكرته زاويته الأشهر (في عين العاصفة) التي كانت تنشرها صحيفة الشرق الأوسط يومياً إبان احتلال نظام صدام حسين لدولة الكويت، وما ترتّب على هذا الاحتلال من اشتعال ما سمّي بحرب الخليج الثانية.

لم يمض وقتاً طويلاً في عمله وزيراً للمياه ثم وزيراً للمياه والكهرباء بعد انتهاء مهمته في سفارة المملكة لدى بريطانيا وعودته إلى الوطن، وبالتالي فإنه يتعذّر علينا رصد إنجازاته في هاتين الوزارتين، إذْ إنّ فترته التي أمضاها لم تبلغ العامين في أول وزارة للمياه وأول وزارة تجمع بين المياه والكهرباء، ما يعني -بنظري- أنها كانت مرحلة تأسيس واختيار قيادات لها، وفترة تأمُّل واختبار وتعرُّف على الواقع، ومن ثم تبنّي ما يتم التوصل إليه من نتائج، حيث يمكن للوزير استخلاصها من التقارير التي توصّل إليها الخبراء بعد وقوفهم ميدانياً على الواقع، دون الاعتماد على فتح الملفات القديمة، ليصار بعد ذلك إلى رسم الاستراتيجيات المناسبة التي تحدُّ من الهدر لمياه ناضبة، بينما يعتمد الناس في استخدام المياه في كلّ أغراضهم على المحلّى من مياه البحر، وهو مكلف مالياً ويقدّم للمواطنين والمقيمين بأرخص الأسعار، أما الكهرباء والتوسُّع بها، وترشيد الناس نحو الاستخدام الأمثل، فهي كما المياه ترتبط بثقافة المجتمع، كما أنها ترتبط بالتوسُّع العمراني وازدياد النمو في عدد السكان، وبالتالي زيادة الطلب عليها، وقد ترك القصيبي الوزارة إلى موقعه الجديد، بينما لا تزال الوزارة في بدايات العمل تواصل استكمال خطط التطوير والتوسُّع وتوفير المياه والكهرباء للناس، مع جهد مقدّر في توعية الناس، وحثِّهم على الترشيد في استخدام المياه والكهرباء، وأن يكون الاستخدام في حدود الحاجة والمتطلّبات، ومن دون هدر أو مبالغة أو إهمال.

فُصلت الشؤون الاجتماعية عن العمل؛ لتكون هناك وزارة للشؤون الاجتماعية وأخرى للعمل، وأصدر الملك عبدالله بن عبدالعزيز أمراً بتعيين غازي القصيبي وزيراً للعمل، ليبدأ مبكراً - وكعادته - حرباً شرسة لا هوادة فيها لإلزام الجميع بما يراه من تنظيمات؛ فوُوجِه بمعارضة قوية وشديدة، حاول إثر ذلك استخدام سلاح الإعلام ضد معارضيه، غير أنه لم يجد المساندة القوية التي توقعها من الصحافة، مثلما وجدها من قبل حين كان وزيراً للصناعة والكهرباء ثم وزيراً للصحة؛ فقد تبنى مبدأ الحد من استخدام العمالة الأجنبية، وإلزام الشركات بتشغيل السعوديين في بعض أعمالها، ملوحاً تارة بالعقوبات، ومبدياً أحياناً أخرى شيئاً من المرونة وتقديم الحوافز هدية لمن يرفع نسبة السعودة في شركته؛ فدخل في نفق مظلم، وخلافات لا تهدأ مع راغبي استقدام من يرون أنه يلبي احتياجهم من العمالة لمصانعهم وشركاتهم، بينما أعداد العمالة التي يتم استقدامها كانت بازدياد وبشكل مقلق، والبطالة بين السعوديين هي الأخرى في نمو مستمر، وفرص العمل المتاحة بأجهزة الدولة وبالقطاع الخاص معاً لا يمكن أن تغطي قوائم الاحتياج من السعوديين العاطلين في ظل تزايد خريجي الجامعات، ولاسيما مع مطالبة وزارة العمل للشركات بتقديم أجور أعلى للسعوديين مقارنة بما تعطيه لغير السعوديين من مرتبات، وهم الأكثر خبرة ومهارة.

شعر الدكتور القصيبي - على ما يبدو - بصعوبة الحل، وتنامي المشكلة، وأدرك أن نجاحاته في وزارات سابقة لا تعني بالضرورة نجاحه في وزارة العمل، تلفَّت يميناً ويساراً، شمالاً وجنوباً، يفتش عن حل سحري، وعن إجراءات جديدة، وأخذ من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله المزيد من الصلاحيات، والكثير من الدعم والمساندة؛ فعدل بالأنظمة، وسَنَّ بعض القوانين، واستعان ببعض القدرات، ووسع في دوائر العمل، وبقيت المشكلة من دون حل؛ فعدد العمالة غير السعودية هي الآن أكثر مما كانت عليه قبل تولي الوزير القصيبي للوزارة، وعدد الراغبين في العمل من السعوديين ممن أقفلت أبواب الوظائف في وجوههم أكثر مما كان عليه الحال قبل أن يدلف القصيبي باب الوزارة، وقبل أن يبشر المجتمع بأنه ماض في الحد من استقدام العمالة الأجنبية، ومصمم على الحد من البطالة بين السعوديين والسعوديات.

ولا بد أن هذه التطورات الدرامية قد تركت أثراً سلبياً في صورة إدارته لهذه الوزارة؛ فأجهدته وأتعبته، وسجنته في أجواء غير مريحة؛ فعانى من متاعب صحية، لكنه لم يستسلم ولم ينهزم، وظل يقاوم بقوة وشجاعة من أجل الوطن والمواطن، إلى أن بلغت متاعبه الصحية حداً لم يعد معها قادراً على المقاومة؛ فغادرنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية يلتمس العلاج، ولا أستبعد أنه مع مرضه ظلت وزارة العمل والاستقدام وتوظيف السعوديين هاجسه ومشكلته، وأنه ربما توصل إلى مجموعة أفكار وخطط وبرامج سوف ينفذها بعد عودته سالماً - إن شاء الله -؛ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مشكلة إذا ما تُركت على ما هي عليه من دون حل فسوف تتفاقم، ولن تكون هناك قوة قادرة للسيطرة عليها.

لم أتحدث بشيء عن سيرة غازي القصيبي في كلٍ من سكة الحديد وقبلها في جامعة الملك سعود، كما لم أتحدث عن عمله في سفارتي المملكة في كلٍ من البحرين وبريطانيا، فأنا لم أكن متابعاً لأعماله وإنجازاته أو ملمّاً بها، وبالتالي فليس عندي ما يمكن أن أضيفه على ما تعرفونه عن هذا الجزء من سيرته الوظيفية، غير أني على قناعة بأنَّه لم يترك أثراً كبيراً في هذه القطاعات، كذلك الذي تركه في الكهرباء والصحة، وأضيف إليهما الصناعة، إذ إنه لو لم يقم إلاّ بما قام به من جهد في إنشاء شركة سابك وما ارتبط بها من صناعات متنوّعة لكفى، فضلاً عن التغيير الإيجابي الذي لامس به ما كان يسمى مركز الأبحاث والتنمية الصناعية، فأحدث بذلك دوراً إيجابياً للمركز في خدمة التنمية الصناعية، غير أن أهم منجز له في فترة عمله سفيراًُ للمملكة في بريطانيا أنه لم يستسلم لابتزاز الإعلام هناك، فقد أقفل أبواب السفارة على كل من اعتقد أن إساءة للمملكة أو تجنياً عليها يمكن أن يضعف موقف المملكة ويغير من أسلوب تعاملها الشجاع مع هذا النوع من الإعلام الرخيص، ففهم هؤلاء الرسالة وأدركوا أن سفارة المملكة لا تتعامل إلا بالكلمة ومع الشرفاء من الإعلاميين فقط. أما عن وزارة العمل وما يمكن أن يقال عنها فإلى جانب ما قلته من قبل، فربما كان من المبكِّر الحكم على ما أنجزه فيها، فهو يحتاج لإنجاح مهمَّته إلى المزيد من الوقت، وإن كنت أميل إلى الفريق الذي يرى أنَّ تجربته في الوزارة لم تعط بعد ذلك النجاح الذي كان متوقعاً ومنتظراً من الدكتور، وبخاصة أنه تلقَّى دعماً كبيراً من الملك عبدالله استجابة لخطط ودراسات واقتراحات وبرامج رُفعت منه إلى خادم الحرمين الشريفين.

وعلينا أن نتذكر شيئاً مهماً عن إنسانية غازي القصيبي، مثلما تذكرنا شيئاً من سيرته الوظيفية، فله في هذا الجانب إسهام كبير، بعضه - وهو الكثير - لا نعرف عنه شيئاً، وما هو قليل منه هو هذا الذي أريد أن أذكر به، فقد قيل لي إن غازي القصيبي حين دخل أول تشكيل وزاري بعد استشهاد الملك فيصل -رحمه الله-، كان أول ما فكر فيه اهتمامه بالشعراء والأدباء والكتاب ممن كانوا يمرون بأحوال مادية صعبة، فكانت شفاعته لهم لدى ولاة الأمر سبباً في إغلاق باب الضائقة المالية التي كانوا يعانون منها، وإن نسينا فلا يمكن أن ننسى أن إنسانية الرجل هي التي قادته لتبني إنشاء جمعية الأطفال المعوقين، وإقامة مبناها في مدينة الرياض من خلال تبرعات وهبات حصل عليها من أهل الخير، مع وضع تنظيم إداري وعلاجي لها، مكنها من التوسع والتطور بعد تولي الأمير سلطان بن سلمان لمسؤولياتها، ومن الشواهد على الحس الإنساني الذي يتمتع به تبنيه إنشاء جمعية أصدقاء المرضى، وبرنامج التبرع بالدم، وإهداء صور المواليد في مستشفيات وزارة الصحة بعد ولادتهم لأهلهم، مع قائمة بالأسماء العربية لمساعدة الوالدين في اختيار الاسم المناسب.

لا بأس أن أختم هذا العرض عن سيرته الوظيفية بأن أحدثكم عن بعض ما أتذكره من معارك بينه وبين الآخرين، وتحديداً ما كان منها قد نشر عبر صفحات الجزيرة، وسوف أختار منها معركة واحدة فقط، بين ما أسميناه أنذاك: أول معركة بين وزيرين، وكانت بينه وبين وزير الدولة السابق زميله الدكتور محمد الملحم حول ديوان القصيبي (أبيات غزل) حيث تساءل الدكتور الملحم ماذا لو أن أمير الغزل وشاعره ورائده عمر بن أبي ربيعة حياً بيننا، ماذا سيكون حكمه على ديوان يحتوي على أبيات ليس فيها من الغزل شيء، ليجيب الدكتور الملحم بأنه سيصدر حكم براءة على الأبيات وحكم إدانة على الكلمات، ويتساءل الدكتور الملحم موجها كلامه للدكتور القصيبي: لماذا تبني باليد اليمنى وتهدم باليد اليسرى، ولماذا تجمع بين النقيضين، بين السمين والغث، بين الجيد والرديء، وتمنى على الدكتور القصيبي أن يقوم بتفريغ ما يزخر به خياله الواسع في أبيات عمودية تستطيع إبنتك (يارا) أن تحفظها عن ظهر قلب فترددها حينما ترغب، وقدم الدكتور الملحم في نهاية نقده للديوان نصيحة للدكتور القصيبي بأن يدع الفتاة الصغيرة تضم شعره في قلبها، في ذاكرتها، أن تضمه بين يديها، إلى أن يقول دع (يارا) وهي طفلة صغيرة، وبعد أن تشب عن الطوق تروي شعرك من قلبها، من ذاكرتها كما تطلب منها في إهداء الديوان لها.

أسرع الدكتور القصيبي بالرد على زميله الدكتور الملحم، وبين ما قاله: إن رأي الدكتور الملحم بالشعر الحر معروف لدي، أما رأيي فهو أن الشعر الحر والمقفى يستويان والعبرة بالنوعية، مع أن في تراثنا الشعري أطنان من القصائد لا تستحق أن تطلق عليها كلمة شعر رغم استقامة أوزانها ووحدة قوافيها، وأن سهولة الحفظ لا يجب أن تكون معياراً وحيداً للشعر الجيد، مضيفاً: حسب هذا الديوان - أبيات غزل - أنه أمتع بعض القراء ببعض مقطوعاته، أما المقطوعات الأخرى فلعل عزاءها أن قارئاً ما في مكان ما سيعجب بها، ولعل عزاءها - إن لم يحدث ذلك - أنها نفست عن قائلها بعض ما يعتلج في صدره يوم قالها.

بعد كل هذا اسمحوا لي أن أقول لكم صادقاً إنني مهما تحدثت عن الدكتور القصيبي، فسيكون حديثي عنه قاصراً، فكيف بي وأنا أمام زمن محدد لا يسمح لي بأكثر مما استمعتم إليه، ولعل عزاءنا ما نشر في كتاب: الاستثناء غازي القصيبي الذي أصدرته (الجزيرة) وهو الآن بين أيديكم، وعنه يقول الدكتور القصيبي في رسالة وجهها إلي: لا أظن أن شوقي كان أسعد مني حين بويع بإمارة الشعر، ولا أظن أن حائزاً على جائزة نوبل فرح فرحتي بهذا التكريم منقطع النظير، إلى أن يقول: فليوزعوا جائزة نوبل على من شاؤوا.. لقد ظفرت أنا (بنوبلي)، ويختتم رسالته بما يعنيه له هذا الكنز ويقصد به هذا الكتاب بالقول: أريد أن أترك للأولاد والأحفاد (كنزاً) يذكرهم بأنني مررت بهذه الأرض ومضيت، ولكني تركت وردة هنا ونجمة هناك وبينهما كثير من الدموع والابتسامات.

غداً تنشر الجزيرة نصوص المشاركات الرئيسية التي صاحبت الندوة.



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد