هذه الدنيا ما هي إلاّ دار نقلة وما المقام فيها إلاّ رحلة، ولقد حزنا لفراق المعلمة الفاضلة نورة بنت عبد الرحمن الفوزان السويلم يوم الجمعة 14 صفر 1431هـ بعد عمر شارف المائة عام قضته في طاعة ربها وابتغاء مرضاته وبعد معاناة طويلة مع المرض.فحياتها - رحمها الله - حافلة ومليئة بالأحداث والأحزان، فقد عاشت طفولتها يتيمة بعد وفاة والدها - رحمه الله -. فرخلت مع والدتها إلى بلدة سدوس وهناك تعلّمت القراءة والكتابة وحفظت شيئاً من القرآن الكريم، وبعد أن بلغت سن الزواج تزوّجت بالشيخ عبد الله الزامل الذي لم تبق معه طويلاً، ثم تزوجت بالشيخ عبد العزيز بن الشيخ - رحمه الله -، ومنها عادت إلى مسقط رأسها ثادق وأخذت من علمه وحفظت على يديه القرآن الكريم وأنجبت له ولداً وبنتاً.
وكان حبها لكتاب الله شغلها الشاغل، فاستأذنت زوجها للقيام بتعليم القرآن للنشء في بيته. فرحّب بذلك - رحمه الله - وأيّد الفكرة وشجعها على ذلك، وجهّز لها إحدى الغرف لتكون مقراً لتعليم النساء القراءة والكتابة وحفظ كتاب الله، وذاع صيتها في هذه الفترة كمربية ومعلمة، خاصة في تلك الفترة التي لم يبدأ بعد فتح مدارس حكومية خاصة بالفتيات، فتهافت عليها الكثير من أبناء الحي الذي تسكن فيه والأحياء المجاورة، طلباً لتعليم بناتهم القراءة والكتابة وأصول الدين وحفظ كتاب الله، حتى ضاق بهن المكان المعَد للدراسة.
لكن المعاناة لم تمهلها كثيراً فقد توفي زوجها - رحمه الله - بعد أربع سنوات من الزواج، فآلمها فراقه وعاشت ذكريات وفاة والدها وابنها عبد الرحمن الذي أنجبته منه. لكن ما يعزيها في ذلك أنها أم مؤمنة وصابرة بقضاء الله وقدره {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
بعد وفاة زوجها مانعت من الزواج لأجل بنتها الصغيرة، فأصر إخوانها على تزوجيها، فتقدم إليها ابن عمها العم أحمد بن فوزان السويلم، فرضيت به وكفل ابنتها فأنجبت له ولدين: فوزان وعبد الرحمن فاختارهما الله فحزنت عليهما ثم عوّضها الله بثلاث من البنات ملأن حياتها بهجة وسروراً.ثم انتقلت مع زوجها وبناتها إلى الرياض وذلك في عام 1372هـ، فواصلت عملها بتعليم القراءة والكتابة وحفظ كتاب الله، فازداد عدد الطالبات وضاق بهن المكان. فكانت تستعين ببناتها في تعليم الطالبات فكان لهذا أبلغ الأثر في تعليم الكثير من الفتيات ومحو أميتهن.وحينما ازدادت عليها الأعباء والمسؤوليات والكل يحتاجها، الطالبات من جهة ووالدتها من جهة أخرى لكونها مسنة ومقعدة وتحتاج إلى رعاية خاصة،
فأصرت على زوجها العم أحمد بأن يتزوج لأنها لا تستطيع أن تقوم بكامل حقوقه الزوجية، فهي تخاف الله وهذا من شدة ورعها - رحمها الله -، فتزوج العم ورزق بالولد وفرحت بهم أيما فرح.فكانت - رحمها الله - بارة بوالدتها حتى بلغ بها الأمر حينما عجزت والدتها عن الصلاة وثقل لسانها، أن تلقّنها التسبيح في الركوع والسجود عند كل صلاة حتى اختارها الله، وبعد رحيل والدتها بفترة قصيرة توفي زوجها رحمهم الله جميعاً.
وبعد هذا العمر المديد المجيد الحافل بالعطاء، استراحت استراحة المحارب تتذكّر أيامها وما حلّ بها من أشواق وأحزان وذكريات وعبرات تطلب من الأفراد والأصدقاء العفو والصفح.وفي آخر حياتها أصابها مرض الشيخوخة وخارت قواها وفقدت حواسها، إلاّ لسانها الذي كان رطباً بذكر الله عز وجل، فقد اغتنمت صحتها قبل سقمها وشبابها قبل هرمها فوفقها الله للنهاية السعيدة، رضي الله عنها وأرضاها وجعل الجنة مثواها. فإلى جنات الخلد يا أم فوزان برحمة الله.
عبد المحسن عبد الله السويلم
snam20@gmail.com