فارقنا قبل أيام قلائل إلى لقاء ربه أخ عزيز فاضل هو الأخ الحبيب حمد بن موسى بن إبراهيم الطاسان -من أهالي مدينة الرس- بعد معاناة ليست بالقصيرة مع المرض، ودعناه بأعين دامعة وقلوب حزينة شجية، كما ودعته جموع من أهله ومحبيه ولفيف من أهالي الرس، وكلها تلهج له بخالص الدعاء والمغفرة والرحمة، حيث عُرِف منذ ريعان شبابه بحسن الطوية، ونقاء السيرة، وسلامة الصدر، وطيب المعشر... يتوِّج ذلك التزام صادق بدينه ومبادئه، وامتثال حقيقي بما يؤمن به من قيم وفضائل، وهو ما انعكس في تعامله مع الناس فكان بحق رغم عدم كثرة علمه بمثابة داعية صامت ذي تأثير واضح فيمن حوله بتعامله الراقي، وحسن خلقه، وترفعه عن الصغائر في محيطه الاجتماعي والتجاري، وقد حظيت بشرف معرفته وكريم صحبته على مدى حوالي عشرين عاماً، كشفت لي هذه الصحبة عن شخصية متفردة -على ما يبدو من بساطتها- تزخر بشمائل وخصال كريمة مما لا ينم فقط عن معدنٍ أصيل واستعداد فطري وتربية قويمة، بل عن مجاهدة وعزيمة متوثبة نحو السمو وتربية الذات؛ وهذا جعله محبوباً لكل من عرفه، وموضع ثناء وتقدير لمن تعامل معه، كما نعمت بفضل الله من فيض صحبته وأنس عشرته وحميمية قربه فكانت بحق من أجل المباهج والمسرات لي، فما أجمل أن تتبادل مشاعر الود والأخوة الصادقة في الله مع مثل تلك الروح الطاهرة والنفس العذبة التي أسأل الله العلي القدير أن يتغمدها بواسع رحمته وعظيم فضله وأن يجعل مستقرها في عليين، وأن يرزقنا الصبر والاحتساب على فراقه ويجمعنا وإياه في الفردوس الأعلى بمنه وكرمه مصداقاً لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء» رواه الترمذي وقال حديث حسJن صحيح.
|
ومع أن فقيدنا الغالي في غنى الآن -وقد أفضى إلى ربه- عن مدح المادحين وثناء المثنين، ولن ينفعه إلا خالص الدعاء والمحبة في ذات الله، لكنها مشاعر وكلمات أبت إلا أن تجيش بصدري وتحرك وجداني رغبت أن أزجيها عنوان وفاء، ورسالة عزاء لأهله ومحبيه، ومؤملاً أن تكون تذكرة وعظة قريبة المُجتنى وافرة المعنى للقارئ الكريم وذلك من خلال الوقفات التالية:
|
1. من المألوف في علاقاتنا الاجتماعية أننا لا نجيد غالباً الإفصاح عن مشاعرنا الإيجابية المتدفقة تجاه الآخرين إلا في أضيق الحدود أو في المراحل المتأخرة، فمن الأمثال العامية المعروفة التي تعبر عن تلك المقولة الشائعة: (الله لا يُبين غلاك) التي تطلق عادة للرد عند التشكيك في الود والمحبة، وهذه النقيصة الشعورية تفقدنا والمتلقي معاً الاستمتاع بلذة ونشوة واحدة من أرق وأعذب المُتع الإنسانية، ورغم أنني أعتبر نفسي قادراً نسبياً على الإفصاح عن مشاعري، وأحاول دوما تحسين مهارتي في هذا المجال، غير أن جزءاً ليس بالقليل من تلك المشاعر أخذ ينهمر ويتداعى متأججاً بغزارة وسخاء وبما لم أعهده من قبل بعد وفاة الفقيد مباشرة، وهو ما لا أجد له تفسيراً شافياً سوى ما أراه من أن النفس البشرية لا تعرف قيمة ما بين يديها، والنعمة التي ترفل فيها، ومدى أهميتها إلا عند فقدها أو مقاربة ذلك، وهذا من دلائل نقص وقصور النفس البشرية، مثلما لا يدرك الإنسان قيمة الصحة أو أية نعمة أخرى إلا إذا فقدها.
|
ومن هنا فإن الدرس المستفاد الذي يجب أن يعيه كل واحد منا مهما كانت أحواله وظروفه ومركزه الاجتماعي ألا يغفل عن مراعاة الإفصاح عن أحاسيس الحب ومشاعر العرفان والامتنان والثناء والتقدير لكل من حوله لا سيما من يودهم ومن لهم حق عليه، وألا يصرفه صارف عن ذلك من تسويف أو إحساس بالحياء ونحوه، فقد يغيب عنه أولئك الأحباب فجأة أو بعد حين ثم يلتمسهم بغير جدوى، إلى جانب حرمانه نفسه ومن يحب معاً لذة الاستمتاع بمشاعر القرب والأنس والتواصل، إذ البشر جبلوا على التطلع والبحث عن الحب والتقدير والحنان والمشاركة العاطفية، وينتظرون سماع ذلك منا باستمرار مثلما نود نحن أن نسمعه منهم، ولا يظنن أحد أن الحاجة ليست ماسة للإفصاح عن المشاعر للقريبين منا بحجة أن المعلوم لا مبرر لتكراره، وهذا وإن كان سائغاً في فنون الكتابة والأدب وغيرها من المناحي، لكنه لا يعد صحيحاً في مجال العلاقات الإنسانية.
|
2. عرفت فقيدنا الراحل منذ عشرين عاماً وهو شاب في مقتبل حياته، فكان -رحمه الله- شديد الاعتزاز بدينه والتمسك به، واستمرت علاقتي به وقربي منه طوال هذه المدة، فكان كما عهدته صاحب مبدأ ورسوخ في الشخصية، وكشفت لي الأيام ما يتحلى به من نضج مبكر، وعقل راجح، وازداد إعجابي به وتقديري له...، وكلي أمل ورجاء أن يكون بإذن الله تعالى من السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، وذُكر منهم: «وشاب نشأ في طاعة الله».
|
ومن الخصال والصفات الحسنة التي تحمد له أيضاً اهتمامه بالعبادات القلبية، وحرصه الدائب على إصلاح ومجاهدة ذاته، واشتغاله بعيوبه عن عيوب غيره، وعزوفه عن الخوض فيما لا يعنيه، وحسبك بها من فضيلة، ولعل من بركة الله له في عمره الذي لم يتجاوز 39 عاماً، أن حياته كانت حافلة بالعطاء والبر والصلة والعمل الصالح إن شاء الله تعالى.
|
3. مما أكبرته في الفقيد -رحمه الله- ما رأيت من صبره واحتسابه وتوكله الصادق على الله، ورضاه بما قدره له، والتسليم والاستعداد لملاقاة ربه دون جزع أو هلع؛ على فراق الدنيا، وصدق من قال: إن الإنسان كلما كان شريفاً وفاضلاً قل خوفه وجزعه من الموت، وكأننا به وهو يرى الدنيا على حقيقتها رأي العين، ويستقبل الآخرة بكل رضاً على أنها هي الحياة الخالدة للمسلم، قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}(العنكبوت:64) فلله دره حينما استيقن عملياً هذه الحقيقة التي هي أصدق وأرسخ حقائق الحياة، ولكم نحن مشغولون عنها بزخرف الدنيا وفتنتها...!! وصدق الشاعر إذ يقول:
|
وكل بساط عيش سوف يطوى |
وإن طال الزمان به وطابا |
ولا يُنبيك عن خلق الليالي |
كمن فقد الأحبة والصحابا |
|
للموت فينا سهام وهي صائبة |
من فاته اليوم سهم لم يفته غداً |
4. من جوانب التميز الأخرى في الفقيد -رحمه الله- أن باطنه خير من ظاهره - على كثرة سيما الصلاح البادية عليه- وأن عقله يفوق سنه، مع التحري والحرص على العمل بما يعلم، فلا ترى علمه يزيد على عمله، يكره التزيد والمبالغة في القول والعمل والحال، بارا بوالدته واصلا لرحمه، كثير التغافل عن الزلات، وكان طاهر القلب واليد واللسان، أنيس المجلس يألف ويؤلف، دمث الخلق، يميل إلى الدعابة في موطنها بعيداً عن الإسفاف والابتذال، ذا رفق وروية في شأنه كله، عطوفاً رحيماً بكل من حوله، يحب العلم وأهله والبحث فيه، ويحتفي بالفائدة ويطرب للحكمة، ومن مناقبه وسلوكياته المرتبطة بممارسته للعمل التجاري أنه -رحمه الله- كان سمحاً في تعامله، مؤدياً للحقوق دون مماطلة أو تسويف، محتسبا الأجر والبركة من الله تعالى سواء في طلب حقه أو أداء ما عليه، مستهدياً بأخلاق وآداب التاجر المسلم، كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «رحم الله عبدا سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا اقتضى» رواه البخاري، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «خيركم أحسنكم قضاء» متفق عليه.
|
كما لا يفوتني أن أنوِّه بما كان يحمله -رحمه الله- من فهم صائب وفكر سديد وممارسة عملية حول رؤية الإسلام لدور وحقيقة المال وحدود وضوابط السعي لتحصيله، وعدم الاستغراق فيه؛ مما لا يدرك الكثير منا استيعابه وفهمه، فضلا عن العمل بموجبِه... والله المستعان!!
|
وبعد هذه الوقفات عن مآثر ومناقب الفقيد -رحمه الله- التي نرجو أن تكون شفيعا له يوم القيامة...
|
نقول لأهله ومحبيه وكل عاشق للمروءة والنبل: إن مَنْ هذه صفاته وخصاله لخليق بأن تبقى ذكراه محفورة في القلوب خالدة مع الأيام تشيد بصاحبها؛ لتستجلب له دعوة خالصة، أو تستنهض همة عالية، داعين له الله تعالى بدعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- اللهم اغفر له، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه.
|
خالد بن عبدالله بن سعد الرويشد |
|