Al Jazirah NewsPaper Tuesday  23/02/2010 G Issue 13662
الثلاثاء 09 ربيع الأول 1431   العدد  13662
 
التداخل الدائري بين الحضارات والتباس القراءات..!
د. حسن بن فهد الهويمل

 

علاقة الحضارة الإسلامية بسائر الحضارات القائم منها والحصيد علاقة جدلية تراوح بين الصراع والصدام والسلام. والمستويات الثلاثة ممكنة: عسكرياً وفكرياً، وهي خيارات محفوفة بالمخاطر،

ما لم يضطلع بها أهل الذكر والسياسة؛ إذ كل واحد منها مشروع أو محظور وفق سياقه. ومعضلة الجدل الفكري والتاريخي والسياسي غياب أو تغييب النسق والسياق أثناء الحُكْم على الظواهر. والنسق والسياق هما قوام التصوُّر الذي أكد عليه الأصوليون عند الحُكْم على الشيء، وما تفرق الذين يكتبون في سائر الشؤون إلا لأنهم لا يستحضرون محققات الفَهْم السليم. ولأن حسم شيء من الصراع أو الصدام أو السلام غير ممكن فإن خيار (السلام) هو الخيار الأهدى والأجدى للحضارة الإسلامية في راهنها المأزوم، والجنوح إليه مطلب رئيس، ولا يحيد عنه إلا هالك. وليس السلام اضطراراً، فيما يكون الصراع والصدام كذلك. والضرورات تؤخذ بمقدار بحيث لا يكون الآخذ باغياً ولا عادياً، وأي خيار منها لا يكون حضارياً وإنسانياً حتى يستوفي متطلباته، وحتى تقتضيه المرحلة المعاشة؛ ذلك أن السلام ربما يكون ضَعَة لا تواضعاً، واستسلاماً لا سلاماً، وذلك حين لا يستدعيه الموقف، أو حين يلجأ إليه المستضعف اضطراراً لا اختياراً. وبقدر حاجة المحارب إلى السلاح الرادع والإنسان القوي فإن المسالم الشريف بحاجة إلى القوة ذاتها والإنسان الأقوى عينه تحقيقاً لمقولة: «من أراد السلام فليستعد للحرب». والجنوح للسلام المطلق وغير المشروط مخادعة للنفس وإذهاب للكرامة وتفريط بالحق المشروع، وأي تحرف لواحد من تلك الخيارات لا يكون متوافراً على إمكانياته ومتطلباته ينقلب إلى ضده؛ ذلك أن خيار السلام صعب صعوبة خيار الحرب.

والمرحلة المعاشة للأمة العربية بكل ما تمخَّضت عنه من مفاجآت موجعة وتحديات عصيبة وويلات ممضة فرضت عليها خطاباً تسامحياً لم يكن في بعض مستوياته حقيقا بالقبول؛ لمجيئه في بعض الوجوه مفرغاً من قيمه الإيجابية؛ فالتسامح نزوع طبعي للإسلام، ولكنه كما الجهاد والسلام والولاء والبراء لا يكون شيء منها حقيقا بالاحترام بدون حدوده وضوابطه ومحققاته؛ ذلك أن التسامح لا يعني التخلي عن محققات الوجود الكريم، وممارسة البعض له ممارسة هوان وذوبان. والحضارة - أي حضارة - كيان تحققه الضوابط والمقاصد والسمات والخصوصيات، وفي ظل تلك المؤشرات يظل الكيان - أي كيان - متداخلاً مع سائر الكيانات القائمة، ولكنه تداخل لا يتجاوز تحقيق الحضارة المشتركة (الحضارة الإنسانية) التي تمثل الدائرة الأوسع في الوجود الإنساني. فالإنسانية لها حضارتها التي لا تلغي ما دونها من الدوائر القومية والدينية، وكل الحضارات تشكِّل تداخلاً دائرياً لا تُفقد معه الخصوصيات، ولو أخذت الحضارات المتعاقبة أو المتزامنة هذا التداخل بحقه لشاع السلام والوئام بين العالم المتفاني بسبب العصبيات والتعصبات. وإذا كانت الحضارة الإسلامية قد ورثت حضارات سابقة عليها أو مزامنة لها فإن ما سواها مارس المسار الاستيعابي ذاته، محققة في النهاية مقولة: (ليس هناك حضارة بريئة). غير أننا لا نمضي مع مقولات (ماركسية) انتحلها (ماركسيون) هالكون أمثال (خليل عبدالكريم) في كتابه (الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية)، ولقد لفت إلى هذا التداخل والاقتراض والاسترفاد حديث: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وحديث القصر الذي تنقصه لبنة. وعلى ضوء ذلك فإن بالإمكان حوار الحضارات وتعايشها؛ إذ ما من حضارة إلا هي على جانب كبير من المقاصد الإنسانية، وإن كان ثمة اختلاف - وهو كائن بلا شك - فإنه في جوانب الشريعة والمنهاج، وتلك لا ينعدم معها الوفاق، حتى لقد جاءت (الماسونية) مخادعة بشعارها الذي تتسع له كل الديانات (الحرية والعدل والمساواة)، وهذا الشعار المخادع دفع كثيراً من أساطين الفكر والسياسة للدخول في المحافل الماسونية، وعرَّض تاريخهم للنقد الجارح، مع أنهم خُدعوا بذلك الشعار. على أن افتراض خطأ الآخر لا يعني فرض صواب الذات على حد (الجهل بالشيء لا يعني العلم بالعدم)، وإنما يعني النظر فيما إذا كان هذا الفعل المخالف من محققات حضارة الآخر، وكيف لا يكون للآخر نصيبه من الحق المشترك، وحديث «الحق ضالة المؤمن» محرض على التنقيب في تجاويف حضارة الآخر والتقاط ما لديه من الحق. وإشكالية الخطاب (التنويري) أنه لا يفكِّر بالتصحيح داخل المعمار الحضاري الذي ينتمي إليه، وإنما يقترف خطيئة هدم المعمار والصيرورة إلى معمار آخر قد لا تتوافر فيه شروط المشروعية ولا مقومات الوجود الكريم. والخلوص من مكونات الذات لتلقي مكونات مغايرة لا بد أن يمر بفراغات لا يمكن السيطرة عليها. وتلك الممارسة غير السوية وغير الحضارية أشبه بالثورات الدموية، فئة خارج السلطة تسطو على السلطة الشرعية ثم لا تلبث أن تجرمها وتصادر حقها في الوجود التاريخي. وإذ تعاقب الناس على مقولة «لا يكتب التاريخ إلا المنتصر» فإن هناك واقعاً أنكى، وهو افتراء الكذب على السلطة الشرعية المستلبة. وكتاب (الصامتون يتكلمون) لا يحكي مأساة السلطة المسلوبة، ولكنه يحكي واقع فئة أسهمت في صنع الثورة ثم كان قدرها أن تكون الوجبة الأولى على سنن «الهرّة تأكل أولادها»؛ فالثورات كنار المجوس تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.

والحراك حسياً كان أو معنوياً يقفو أثره المفكِّر والسياسي والمؤرخ والإعلامي، وهؤلاء هم الذين يصنعون أرضية حوار الحضارات، ومن خلال ممارساتهم تتشكَّل مداخلها ومخارجها. ومعضلة القَفْو في تلونه عند كل متعقب، وليس أدل على ذلك من الحضارة الإسلامية وآدابها وتاريخها؛ لقد انتهت إلينا عبر خطابات متعددة؛ فالذي يتقرَّاها في كتب التاريخ السياسي كما هي عند (الطبري) و(ابن خلدون) و(المسعودي) لا يمكن يكون تصوره متماهياً مع الذين تقرَّوها عند (الذهبي) و(البغدادي) و(ابن عساكر)، والذين قرؤوها في العصر الحديث شدتهم مذاهبهم ومناهجهم ومناطاتهم الحضارية ومشاربهم الفكرية؛ ف(طه حسين) قرأ التاريخ السياسي والأدبي، ولم تكن رؤيته كرؤية (أحمد أمين) في كتبه (الفجر والضحى والظهر)، والاثنان يختلفان عن (العقاد) و(الرافعي) و(محمود شاكر)، ولن نشق على أنفسنا ولا على القارئ في تفسير هذا التباين، ولكننا نسوق ذلك للتأكيد على أن القراءات تخلق العقبات أو تمهد طرق الحوار وتبادل المصالح وإمكانية التعايش السلمي، وكل قراءة تعطي تصوراً مناقضاً، ودعك من قراءات الملل والنحل التي جعلت الأمة شيعاً يذوق بعضهم بأس بعض، وهو الوعيد والإنذار من الله لعباده في قوله تعالى {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ}. فعند البخاري (يلبسكم): يخلطكم من الالتباس. وتلك معضلة الأمة في تعدد الرؤى والتصورات، وحديث اقتسام الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة سببها القراءات والتأويل الفاسد وتحريف الكلم عن مواضعه، وهي العقبة التي تحول دون إمكانية الحوار.

ومحصلة ذلك كله أن العصر الحديث يستدعي قراءات وسطية مزودة بكل الإمكانيات القرائية؛ كي تخلص الأمة من الصدام والإقصاء والتصنيف ومصادرة حق الآخر. وإذ يكون خيار السلام رئيساً فإن حوار الحضارات بضوابطه ومحققاته خيار رئيس، ولن يقي الأمة من مصارع السوء إلا الجنوح إلى السلام وإتقان لغة الحوار واستنزاف القواسم المشتركة لبناء حضارة إنسانية تحتضن كل الحضارات وتمكِّنها من ممارسة حقها بحرية وأمان، ودون الإخلال بالثوابت والمسلَّمات ومحققات حضارة الانتماء.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد