كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر فظيعة للغاية بكل المقاييس، ولكن بالنسبة إلى الكثيرين منا كان الخوف الحقيقي من تبعاتها، كان هناك قلق من أن تنظيم القاعدة كان قادراً على شن هجمات وحشية ومعقدة، وكان هناك قلق أكبر من أن التنظيم تمكن أو أنه كان قادرا على الاستحواذ على قلوب المسلمين وعقولهم،
ولو أن المسلمين تعاطفوا مع قضية القاعدة لكنا اليوم نخوض كفاحا شاقاً ومريراً، فهناك أكثر من 1.5 مليار مسلم يعيشون في أكثر من 150 بلدا في جميع أنحاء العالم، ولو أن الفكر الجهادي كان جذابا لجزء كبير منهم، لكان الغرب يواجه صداما لا نهاية له بين الحضارات، صداما تميزه الدماء والدموع.
لقد كانت تلك المخاوف في محلها، فهجمات الحادي عشر من سبتمبر فتحت الستارة على عالم من التعصب والعنف الإسلامي الذي كان يلهب الأراضي العربية، الذي تم تصديره إلى كل أرجاء العالم، من لندن إلى جاكرتا، وقد كشفت استطلاعات الرأي في جميع أنحاء العالم الإسلامي عن الغضب الشديد ضد أمريكا والغرب، ودرجة مدهشة من الدعم لأسامة بن لادن، وكانت الحكومات في معظم هذه البلدان تشعر بالتردد حيال هذه الظاهرة، وافترضت هذه الحكومات أن غضب الإسلاميين سيتركز على الولايات المتحدة وليس عليها، وبدا أن بلداناً كبيرة ومهمة مثل المملكة العربية السعودية وإندونيسيا قد أصبحت عرضة للخطر.
لقد مرت حتى الآن ثماني سنوات مليئة بالأحداث لكننا ما زلنا نشعر بأننا في عام 2001م، إذ من الواضح أن الجمهوريين لا يزالون يعتقدون أن استراتيجية تذكية مخاوف الشعب من الجهاديين لا تزال تشكل استراتيجية رابحة، حيث غالبا ما يقدمون أمثلة على التخلف والوحشية من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، كما يقومون بتسليط الضوء على التهديد الخطير الذي نواجهه، ولكن في الواقع فإن المد في كل البلدان التي شاركت في الحرب على الإرهاب قد تغير اتجاهه، وببساطة لقد عاد المعتدلون للقتال وبدأ التيار المتطرف يتراجع، ونحن لم نعد نخشى من إمكانية خضوع دولة مهمة للفكر الجهادي، وفي معظم الدول الإسلامية قام الحكام بتعزيز استقرار أنظمتهم ومجتمعاتهم، وبهذا تم عزل المتطرفين، والقوى المعتدلة أصبحت هي المسيطرة بشكل واضح وتحظى بتأييد واسع في أنحاء العالم الإسلامي، وتؤكد كل استطلاعات الرأي، والانتخابات والدراسات المتعمقة هذا الاتجاه.محور اهتمامنا الآن ليس حركة سياسية واسعة النطاق ولكن حفنة من المتعصبين منتشرة في جميع أنحاء العالم، وتواصل واشنطن إنفاق عشرات المليارات من الدولارات في العراق وأفغانستان، وهناك دعوات لبذل المزيد من الجهد في اليمن والصومال، ولكن يتوجب علينا أن نسأل أنفسنا فيما إذا كان أي من ذلك من شأنه حقاً أن يردع هذه العصابات الصغيرة من المتطرفين، علينا أن نفهم التغيرات الحاصلة في البيئة الإسلامية إن كنا نريد التصدي بشكل فاعل للعدو على أرض الواقع، بدلاً من العدو الكامن في أذهاننا.
كان رد فعل أمريكا الأولي على هجمات الحادي عشر من سبتمبر هو التركيز على تنظيم القاعدة، والمجموعة كانت قد طردت من قاعدتها في أفغانستان، وكانت تلاحق أينما ذهبت، وقد جرى تتبع أموالها وتجميد أرصدتها، وجرى اعتقال وقتل مقاتليها، وقد انضمت العديد من الدول الأخرى في هذا القتال ضد القاعدة، من فرنسا إلى ماليزيا، فقبل كل شيء لا توجد حكومة يمكن أن تسمح للإرهابيين بالعمل بحرية على أرضها.
لكن حواراً أوسع نطاقاً بدأ أيضاً بعد ذلك، وتخللته تساؤلات مثل: لماذا يحدث ذلك؟ وما الذي يمكننا القيام به حياله؟ التعليق الأكثر تأثيراً فيما يتعلق بالإسلام في أعقاب حقبة 11 سبتمبر لم يأت ضمن خطاب رئاسي أو مقال لأحد المفكرين، بل جاء في تقرير للأمم المتحدة، ففي عام 2002م نشر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي دراسة مفصلة عن العالم العربي، وقد أوضح التقرير أنه في عصر العولمة والانفتاح والتنوع والتسامح كان العرب الأكثر تأخراً في العالم، مستعيناً ببيانات علمية، وقد رسم التقرير صورة سياسية واجتماعية وفكرية عن الجمود السائد في بلدان عربية، وكان هذا التقرير من إعداد فريق من المفكرين العرب.
التقرير والكثير من المقالات والخطابات التي ألقتها شخصيات سياسية وفكرية في الغرب أطلق عملية إعادة تقيم ذاتي في العالم العربي، لم يتخذ النقاش الشكل الذي أراده الكثيرون في الغرب، لم يقل أحد (أنتم محقون، نحن متخلفون).
خلال عامي 2003 م و2004م، هزت المملكة العربية السعودية سلسلة من الهجمات الإرهابية المماثلة، بعضها موجه ضد الأجانب، لكن البعض الآخر كان موجهاً إلى وزارة الداخلية ومجمعات تابعة لقطاع النفط، وفي عام 2005م، اعتلى العرش رجل حكيم ومعتدل، وهو الملك عبد الله، وأطلق جهوداً سياسية وفكرية واسعة النطاق تهدف إلى دحض فكر الجهاديين، أمر الدعاة بشجب التفجيرات الانتحارية والعنف بشكل عام. و(أعيد تأهيل) الإرهابيين والمتهمين بالإرهاب من خلال برامج شاملة تركز على التعليم والتدريب المهني وتقديم المشورة، وقد قال لي قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال ديفيد بترايوس: (الدور السعودي في التصدي لتنظيم القاعدة، بالقوة وباستخدام الأدوات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية ايضاً، هو أحد أهم التطورات الإيجابية التي لا تحظى باهتمام إعلامي كاف في الحرب على الإرهاب).
ولعل البلد الذي حقق النجاح الأكبر في مكافحة الأيديولوجية الجهادية هو البلد الإسلامي الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم، إندونيسيا في عام 2002 بدا أنه من المقدر لذلك البلد أن يخوض صراعا طويلاً وأليما مع القوى الإسلامية المتشددة، وقد هزت البلد هجمات إرهابية عدة، وبدا أن مجموعة محلية تابعة لتنظيم القاعدة تدعى الجماعة الإسلامية، تزداد قوة، لكن بعد ثماني سنوات أصبحت الجماعة الإسلامية مهمشة واكتسبت الأحزاب السياسية المعتدلة زخماً، فيما أزهرت براعم الديموقراطية بعد انهيار حكم سوهارتو.
ومنذ 11 سبتمبر بدأ المعلقون الغربيون يطالبون القادة المسلمين المعتدلين بشجب الفكر الجهادي، وإصدار فتاوى تدين التفجيرات الانتحارية، والتنديد بتنظيم القاعدة، ومنذ عام 2006م تقريباً بدأ قادة المسلمين المعتدلون يقومون بذلك بأعداد كبيرة، وفي عام 2007م كتب أحد أهم مرشدي ابن لادن السعوديين، وهو الداعية والمفكر سلمان العودة، رسالة مفتوحة ينتقده فيها ل(نشر ثقافة التفجيرات الانتحارية التي تسببت بسفك الدماء والعذاب، وجلبت الدمار لمجتمعات وعائلات مسلمة بأكملها)، في العام نفسه، أصدر عبدالعزيز آل الشيخ، مفتي عام المملكة العربية السعودية، فتوى تحرم على السعوديين خوض الجهاد في الخارج واتهم بن لادن وبعض الأنظمة العربية بتحويل شبابنا إلى قنابل متحركة لتحقيق أهدافهم السياسية والعسكرية. كما أن أحد أهم المفكرين في تنظيم القاعدة، عبد العزيز الشريف، شجب تطرف التنظيم، بما في ذلك قتل المدنيين واختيار الأهداف استناداً إلى التدين والجنسية، الشريف وهو من أقدم رفاق الظواهري الذي صاغ ما أصبح يعرف بدليل القاعدة للجهاد دعا المسلحين إلى التوقف عن أعمال الإرهاب، وكتب نقداً يدين فيه أفعال زملائه السابقين.
جامعة الأزهر في القاهرة، وهي مركز التعليم الإسلامي الأهم والأقدم في العالم، تندد بالفكر الجهادي بشكل دائم، كما أن حركة دار العلوم ديوبند في الهند، وهي معقل التطرف الأصلي الذي كان له تأثير في تنظيم القاعدة، تدين التفجيرات الانتحارية منذ عام 2008م.
قد يبدو هذا نقاشاً مبهماً، لكن تذكروا أن أهم المعتدلين الذين نددوا بالجهاديين هم من أعضاء عائلات المتطرفين، في حالة الشبان المسلمين الخمسة من فرجينيا الذين اعتقلوا في باكستان العام الماضي وعمر الفاروق عبد المطلب الذي حاول تفجير نفسه في الطائرة يوم عيد الميلاد، فإن الأهل هم الذين عبروا عن قلقهم بشأن أولادهم للسلطات الأمريكية، وهو عمل مذهل لدرجة أنه يتطلب دراسة وثناء أكبر مما حظي به حتى الآن.
إن البيانات المتعلقة بالرأي العام في العالم العربي كثيرة جداً، لقد حلل فواز جرجس، وهو أستاذ في كلية لندن لعلوم الاقتصاد، نتائج استطلاعات الرأي من شعارات البلدان الإسلامية خلال السنوات القليلة الماضية، وهو يشير إلى أنه في مجموعة من البلدان وهي الأردن وباكستان وإندونيسيا ولبنان وبنغلادش حصل انخفاض كبير في أعداد الناس الذين يقولون إن التفجيرات الانتحارية وغيرها من أشكال العنف ضد أهداف مدنية يمكن تبريرها دفاعاً عن الإسلام، فالأكثرية الساحقة تقول إن هذه الهجمات في معظمها غير مقبولة.
التحول كان كبيراً بشكل خاص في الأردن، حيث يرى 12 في المائة فقط من الأردنيين أن الهجمات الانتحارية «مبررة أحياناً أو غالباً» (مقارنة بـ57 في المائة عام 2005م). وفي إندونيسيا، يقول 85 في المائة من المشاركين في استطلاعات الرأي إن الهجمات الإرهابية غير مبررة أبداً أو نادراً ما تكون مبررة, في المقابل، كان 70 في المائة فقط من المشاركين يعارضون هذه الهجمات عام 2002م). في باكستان، أصبحت هذه النسبة 90 في المائة بعدما كانت تبلغ 43 في المائة عام 2002م. ويشير جرجس إلى أنه بالمقارنة، يقول 46 في المائة فقط من الأمريكيين إن «القصف أو تنفيذ هجمات متعمدة أخرى ضد المدنيين غير مبرر أبداً», في حين أن 24 في المائة يقولون إن هذه الهجمات «غالباً ما تكون بررة أو مبررة أحياناً».
هذا التحول لا يعكس الابتعاد عن مفهوم متخلف، فالصراع الفكري مستمر وسوف يستغرق عقوداً وليس سنوات، لكن المعركة ضد الفكر الجهادي تكللت بنجاحات أهم وبسرعة أكبر مما تصوره أحد.
هناك بعض الاستثناءات التي تبرز في هذه الصورة العامة، وهي أفغانستان وباكستان واليمن، لكن لننظر إلى الظروف في هذه البلدان، في أفغانستان، اقترن الفكر الجهادي بصراع عرقي حقيقي يشعر فيه البشتون بأن المجموعات المنافسة تظلمهم، وفي باكستان يعي النظام الحاكم ببطء أن التطرف الذي عززه أصبح الآن يهدد مستقبله، وفي اليمن تفتقر الدولة بكل بساطة إلى القدرة على التصدي للمتطرفين، لذلك قد تكون القاعدة العامة أنه في الأماكن التي تفتقر فيها الحكومة إلى الرغبة أو الإرادة أو القدرة على مكافحة الجهاد، يمكن لتنظيم القاعدة أن يستمر في النمو.
لكن طبيعة العدو أصبحت مختلفة الآن، لم تعد الحركة قادرة على الفوز بقلوب الشعوب العربية، وجاذبيتها السياسية لم تعد مصدر قلق للحكام، في الماضي كانت رسائل بن لادن والظواهري المصورة تقلق الأنظمة، اليوم يتم تجاهلها إلى حد كبير باعتبارها محاولات شبه هزلية لإيجاد قضايا شعبية يمكن الاستفادة منها.
هذا الجدل لا يهدف إلى دفعنا للتخفيف من جهودنا في مطاردة المتطرفين، فتنظيم القاعدة لا يزال مجموعة من القتلة الذين يحاولون تجنيد غيرهم من المتعصبين لتنفيذ هجمات مشينة تلحق أضراراً كبيرة بالمجتمع المتمدن، لكن التنظيم فقد هالته، ونفوذه السياسي أصبح محدوداً، والقلة المتبقية من مقاتليه مشتتة في أنحاء العالم وتواجه بيئات معادية لها في كل مكان تقريباً.
لم تعد أمريكا تخوض صراعاً حضارياً في أنحاء العالم الإسلامي، بل حملة عسكرية واستخباراتية في مجموعة من الأماكن السرية، هذا الصراع قد يتطلب سياسات ودبلوماسية ومساعدة إنمائية، مثلما تطلبت أي سياسة خارجية فعالة، لدينا حلفاء ويجب أن ندعمهم، لكن الهدف هو حفنة من المنظمات المتطرفة التي وجدت مجموعة صغيرة من المتعصبين لتنفيذ خططها، بعبارة أخرى، حتى لو بذلت الولايات المتحدة جهوداً ناجحة واسعة النطاق لبناء الأمم في أفغانستان واليمن، هل يعتقد أحد أن هذا سيمنع النيجيري المعتوه التالي أو المتعصب من ديترويت من الصعود على متن طائرة وملابسه الداخلية مليئة بالمواد الكيميائية،؟ لا يمكن استمالة أمثال هؤلاء الناس، ولا يمكن مخاطبتهم بالمنطق، كل ما يمكن فعله هو إلقاء القبض عليهم أو قتلهم.
لم تعد أعداد مقاتلي العدو كبيرة، والمستنقع يجف، لقد خسر تنظيم القاعدة المعركة الفكرية، ما تبقى هو المعركة للانتصار عليه في مخابئ العالم الحقيقي.
نقلاً عن مجلة نيوزويك الدولية الامريكية
الصادره في 28-2-1431هـ الموافق 12-2-2010 م بتصرف