ليسمح لي القارئ أن أعيد الحديث مرة أخرى عن أهمية تأصيل اللغة وعلاقتها بالهوية، والسبب بأننا دائماً ما نتحدث عن الهوية الوطنية أو القومية وعن ملامحها، ونفصّل في أهمية تأصيلها، وتنمية مفاهيمها بين المواطنين، وأحياناً نتساءل عن كيف نساعد الأجيال الجديدة على الارتباط بها، لكننا نختلف في ماهيتها أو صفاتها، وهل الهوية تنحصر في فقط المحافظة على الزي الشعبي على سبيل المثال؟، أو إعادة شريط ذكريات حياة البداوة والخيمة والجمل، أم أنها توحيد أوعية وقنوات الاتصال المعلوماتية بين أفراد المجتمع..
تنتابني مشاعر مختلفة عن ماهية الهوية، عندما أسافر مثلاً إلى مدريد أو سيؤول أو طوكيو، أشعر من خلال احتكاكي بسكان تلك البلاد، أنهم بحق شعوب ذات هوية مميزة، فالمراقب لمعترك حياتهم اليومية، في الشارع أو المستشفى أو المصنع أو الفندق، يجده مجتمعاً متماسكاً، ومنصهراً وسط بيئة معرفية متجانسة، فالكل هناك يتعامل من خلال «لغة موحدة»، وعبر دلالات محددة، يفهمها الجميع، ويتفاعل معها الكل، وتستخدمها جميع الأنشطة العلمية والسياسية والاجتماعية ومراكز الأبحاث، وتفرضها وسائل الإعلام للتخاطب ولتبادل المعلومات..
فالإنسان في تلك المجتمعات ذات الهوية المحددة يتحدث لغته الأم في جميع مجالات حياته، ويحرص على تنشئة أطفاله على إتقانها والاعتزاز بها، وعلى إجراء البحوث العلمية والتفكير من خلالها، ولا يحتاج المواطن هناك إلى تعلّم لغة أخرى على الإطلاق لإدراك أسباب النجاح في مجتمعه، ويبقى ذلك اختياراً فردياً، لا تفرضه عليه متطلبات العمل في السوق المحلية، والسبب أن التوجه الثقافي في تلك البلاد، ورسالته الوطنية يكمن في صنع فرد متكامل من الناحية المعرفية، والإنتاجية، ويتصل من خلال هويته الموروثة، ولغته الأم بكل منتجات الحضارة الحديثة..
تعيش اللغة العربية أو الهوية الوطنية والإسلامية وسط غربة، وجحود مستغرب من أبنائها، والتهميش لحق اللغة العربية في أداء الوعاء الثقافي والمعرفي، هو انسلاخ عن قيم المجتمع وعن هويته، ودعوة إلى الذوبان وسط ثقافة المجتمعات الغربية، والأسباب تتعدد لتنامي ذلك الجحود المستغرب من أبناء العرب للغتهم الخالدة، وأهمها حسب وجهة نظري؛ الهزيمة الحضارية والعسكرية، وانحدار مستويات الوعي بأهمية البعد الاستراتيجي لصهر منتجات الحضارة في اللغة الأم، وأيضاً يشكل عامل تدهور اقتصاديات بعض الدول العربية وازدياد معدلات الهجرة إلى الشمال إلى الهجرة وتعلم لغة أوروبية تمنحهم فرصة العمل خارج الوطن.
يدخل إبعاد اللغة العربية عن مجالات الحياة في زاوية تكريس التبعية في الهوية، قال العقاد عن اللغة العربية: «لقد تعرضت وحدها من بين لغات العالم لكل ما ينصب عليها من معاول الهدم ويحيط بها من دسائس الراصدين لها، لأنها قوام فكرة وثقافة وعلاقة تاريخية»...، وقد يُدخل البعض مقولة العقاد في ذهنية المؤامرة، وقد تكون كذلك، لأن المشكلة حسب وجهة نظري ليست خارجية، ولكن تكمن في داخل العقل العربي الحديث، والذي لا يزال يشعر بالدونية والعجز أمام المنجز الغربي على مختلف المستويات، لذلك يحاول أن يسد ذلك العجز من خلال مماهاة الغربي في لكنته وتعابيره، ولو كان الكورويون يحملون مثل هذه الرؤية العاجزة لما استطاعوا تحقيق المعجزة على أراضيهم من خلال نفس المنتج الثقافي والإنساني، لكن أمة العرب التي يتجاوز سكانها الثلاثمائة مليون نسمة لا تزال تعيش وسط ضعف وهزال حضاري، لا يستطيعوا تجاوزه أو العمل من أجل معالجة أزمة الهوية الضائعة..
قال نابليون: «علّموا اللغة الفرنسية أينما ذهبتم فتعليمها هو خدمة الوطن الحقيقية»، وحكمة نابليون نفذها «كرومر» الإنجليزي في مصر حين أوقف تعيين كل ما لا يعرف الإنجليزية في المصالح الحكومية المصرية، ثم استولى عليها الإمبراطور الأمريكي الجديد، ليحولها إلى أداة تسويقية لمنتجاته المنتشرة في السوق العربية، وإلى غاية لا يتقنها إلا المتفوقون من بلاد العرب،.. يقول أحد المفكرين الألمان: «بمقدار اكتساب اللغة القومية لألسنة جديدة، تكتسب الدولة أراضي جديدة، ونفوذاً جديداً وأموالاً جديدة». والسؤال الذي يطرح نفسه أيها السادة..، هل يدرك العرب، أن لغتهم هي آخر قلاع هويتهم الضائعة، وأن ذوبانها آخر قربان يقدمونه للغرب لكي يقبلهم في الصفوف الخلفية في عالمه المتفوق..؟.