Al Jazirah NewsPaper Monday  22/02/2010 G Issue 13661
الأثنين 08 ربيع الأول 1431   العدد  13661
 
العربية والحديث ذو الشجون
د. عبد الله الصالح العثيمين

 

من حسن حظ أي دولة أن توفَّق في اختيار كفؤ لتحمُّل المسؤولية الملقاة على عاتقه، سواء كانت هذه المسؤولية داخل حدود هذه الدولة أو خارجها. ولقد وُفِّقت - في نظري - جمهورية مصر العربية في اختيار..

..الأستاذ الدكتور عبد الله التطاوي مستشاراً ثقافياً في سفارتها في الرياض، تماماً كما وُفِّقت قيادة وطننا العزيز في اختيار الأستاذ الكريم محمد العقيل ملحقاً ثقافياً للمملكة في القاهرة. وكما أثبت هذا الكفؤ أنه شعلة حماسة ونشاط في أداء مهمته على خير ما يرام أثبت الدكتور عبد الله أنه ممن يشرفون بلادهم نشاطاً متواصلاً موفقاً.

وفي مساء يوم الأربعاء الماضي تكرَّم الدكتور عبد الله محسناً الظن بي؛ فأسعدني وشرَّفني بإدارة محاضرة لأخي وصديقي الدكتور عمر با محسون - وذلك في الملحقية الثقافية المصرية - حول تعليم اللغة العربية في إندونيسيا. وكان أن أجاد الدكتور عمر وأفاد في حديثه؛ الأمر الذي لم يكن غريباً على مَنْ يعرف تاريخه الحافل بإنجازات علمية وثقافية عديدة.

على أن محاضرة الدكتور عمر القيِّمة أدت إلى حديث ذي شجون متصلة باللغة العربية والموقف منها داخل أقطار الوطن العربي وخارجها. وكان مما قلته في تقديمي الدكتور عمر إنني عندما كنتُ صبياً عرفت من صفات الحضارمة صفتين رائعتين، هما عصامية الفرد منهم، وتحلِّيه بالأمانة والصدق في التعامل. وحينما كبرتُ سناً، وقرأتُ شيئاً من تاريخ أمتي المسلمة، أضفتُ إلى تلك المعرفة معرفة صفات رائعة أخرى من صفاتهم، وعلمتُ من فضائلهم الخالدة دورهم الكبير في نشر الإسلام، أو انتشاره، في جنوبي شرق آسيا بالذات وفي أماكن بإفريقيا. وكان من أسباب نجاح ذلك الانتشار دعوتهم إلى الله بالتي هي أحسن، وضربهم أمثلة عظيمة في صدق المعاملة.

وبعد انتهاء الدكتور عمر من إلقاء محاضرته أشرتُ إلى أن الحاضرين ارتشفوا من سلسبيل حديثه ما بلَّ شيئاً من الصدى، وبعث خيطاً من شعاع التفاؤل في أنه ما زال يوجد في أمتنا مخلصون للغة العربية في قلوبهم مكانة، وفي أفعالهم دليل على صدق هذه المكانة.

على أني - في ظل ما يخيم على أجواء أمتنا - أرى جسد هذه الأمة أخذت تدب فيه هشاشة العظام، وأن أركان هويتها - وفي طليعتها لغتها العربية - بدأت طريقها إلى التهاوي مكانة معنوية وواقعاً معاشا.

جميل ومبهج أن نرى جهوداً لنشر اللغة العربية في أقطار غير عربية، لكن من المؤسف المحزن أن نرى أمضى السهام الموجهة إلى كيان هذه اللغة تنطلق الآن من أناس قدَّر الله أن يكونوا أهل مهدها الأول. ما هو حادث في جزيرة العرب، مهد العربية ومهبط الوحي المنزَّل بلسان عربي مبين، أمر مأساوي متعدد الوجوه المخيبة للآمال.

قبل أن تستقل الأقطار العربية، التي ابتُليت بالاستعمار الغربي، كان المستعمر هو الذي يفرض أن تكون لغته هي اللغة المستعملة في التدريس. وبعد أن ارتحل المستعمر شكلياً من تلك الأقطار أصبح يوجد من المسؤولين الوطنيين فيها المتولين وزارات التربية والتعليم في أكثر الأقطار العربية متحمسون لأن يكون التدريس بلغة غير العربية.

قبل خمسة عشر عاماً تقريباً قرَّر وزراء التربية والتعليم العرب أن تكون اللغة العربية - في غضون عشرين عاماً - هي لغة التدريس لجميع المواد، وفي كل المراحل الدراسية. لكنَّ قرار أولئك الوزراء كان قبل أن يحتل المتصهينون في أمريكا وبريطانيا ظلماً وعدواناً العراق، منطلقين من أمكنة بعضها عربية التربة؛ ليصبح واقعها الحقيقي وضعاً أسهم المحتل في جعله غارقاً في نفوذ جهة غريبة الوجه واليد واللسان. ما الذي حدث لأمتنا بعد قرار وزراء التربية والتعليم العرب المشار إليه سابقاً؟

تردت أوضاع أمتنا تردياً واضحاً، أخطر وجوهه تردي الإدارة، وأصبحت أغلب قياداتها واحدتها تقول: نفسي نفسي، ولم تدرك أن أكلها قد حلَّ يوم أُكل الثور الأبيض. على أنني - والحديث عن اللغة العربية، وفي جزيرة العرب - أقتصر في الإشارة إلى ما حدث ويحدث في هذه الجزيرة.

في جزيرة العرب، مهد اللغة العربية ومهبط الوحي المنزَّل بها، أرى بعيني ملامح المأساة. ومن هذه الملامح تغيير التدريس في الجامعة الأم في قطر من أقطار هذه الجزيرة من اللغة العربية إلى الإنجليزية، وسُمح في قطر آخر من أقطارها - وربما في غيره أيضاً - بأن يكون التدريس في المدارس غير الحكومية - وإن كان تلاميذها عرباً مواطنين - بلغة أجنبية، ابتداء من السنة الأولى الابتدائية. ذلك أنه قد خُيِّل - مع الأسف الشديد - لبعض مَنْ في أيديهم مقاليد الأمور التعليمية والتربية أن التقدُّم المعرفي مرهون بأن تكون اللغة المستعملة للوصول إلى المعرفة لغة غير عربية. ولم يدرك أولئك - فيما يبدو - أن أمما في الشرق - بينهم اليابان وكوريا - حققت تقدماً عظيماً في تدريس كل المواد وفي جميع المراحل الدراسية بلغتها القومية. بل إن الصهاينة بعثوا الحياة في لغة كانت ميتة قروناً عديدة، وأصبح يدرَّس بها في كيانهم العنصري المغتصب لفلسطين جميع المواد وفي كل المراحل التعليمية، ولم يقف هذا حائلاً دون تقدُّم ذلك الكيان علمياً وتقنياً.

تعليم اللغة الأجنبية أمر مفيد، لكن جعل هذه اللغة الأجنبية هي لغة التدريس في مدارس الأقطار العربية دليل واضح على نظرة دونية إلى اللغة العربية التي هي لغة أمتنا القومية، وأمر مناقض تماماً لما قرره الزعماء العرب، وكرروا تقريره، في مؤتمراتهم من وجوب العناية باللغة العربية. قد يقول قائل - وقوله مسلَّم بصحته -: ما أكثر قرارات زعماء العرب التي لم تُفعَّل! بل ما أكثر قراراتهم التي عمل ما يناقضها، ابتداء من قرار مؤتمر الخرطوم عام 1967م، رحمه الله ورحم من اتخذوا قراره.

أجل، إنَّ ذلك القول صحيح، وقد يبدو وكأنه جزء من الجانب الثقافي لأمركة منطقتنا العربية في إطار ما سمي بمشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو جانب سبق أن تحدث عنه كاتب هذه السطور في مقالة نُشرت في هذه الصحيفة الغراء بتاريخ 16-3-1426هـ، لكن أن تحدث النظرة الدونية إلى اللغة العربية في مهدها الأول ومهبط الوحي المنزَّل بها لأمر يجسِّد مأساة من مآسي أمتنا تجسيداً لا غموض فيه.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد