Al Jazirah NewsPaper Monday  22/02/2010 G Issue 13661
الأثنين 08 ربيع الأول 1431   العدد  13661
 
فض الاشتباك بين الإعلامي والمثقف
عبد الرحمن الحبيب

 

«اكذب ثم اكذب حتى تصدقك الجماهير». هذه المقولة المشهورة لأسطورة إعلام ألمانيا النازية جوبلز لم تكن عبارة عبثية، بل هي حرب نفسية ممنهجة تمثل رغبة الإعلام الرسمي للدولة الشمولية في السيطرة على الفكر والتفكير، والاستحواذ على العقول..

وأكثر من يجابه مهمة الاستحواذ هذه هو الثقافة العقلانية والمثقف العقلاني. فقطاع الإعلام يستند على المهنية الإعلامية التي هي توعوية ودعائية غير محايدة، بل لا يفترض فيها أن تكون محايدة، وهي التي وصلت في أقصى تطرّفها ونزعتها العدوانية كما عرفناها في نازية جوبلز الذي قال: «كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي»

حتى في الدول المعتدلة والحكومات الرشيدة وحتى لو كان المسؤولون الحكوميون في جهاز الإعلام موضوعيين ومحايدين تجاه تيارات فكرية معينة، فإنه لا يمكن لأي وسيلة إعلام حكومية في العالم أن تكون موضوعية ولو نسبياً، حيث يتوجب عليها بالضرورة أن تنتقي معلومات معيّنة من التدفق الهائل للمعلومات، خاصة في عصر الإعلام الإلكتروني وانفجار المعلومات.

فمثلاً البي بي سي البريطانية الرسمية (المستقلة عن الحكومة) التي تتبع معايير صارمة جداً للحيادية والموضوعية، أظهرت دراسات أنها منحازة في الانتقاء على أقل تقدير، خاصة مع بداية الخبر وصياغته. وأظهرت التجارب أن بداية الخبر أو الفكرة وما يتبعها من صياغة تُعَد من أكثر المؤثرات على عقول الناس، بما نسميه الانطباع الأول؛ ومن هنا جاء قول جوبلز: «الأول في طرح الفكرة هو صاحب الكلمة العليا دائماً.»

وأشهر الأمثلة في الصياغة هو ما نسمعه مراراً وتكراراً من وسائل الإعلام الغربية في الخبرين التاليين. الأول: قامت المقاومة الفلسطينية بهجوم على قوات إسرائيلية. والثاني: قامت إسرائيل بهجوم على المقاومة رداً على هجوم سابق للمقاومة. لقد وضع تبرير للخبر الثاني يُظهر دفاع إسرائيل عن نفسها، فيما تُرك الأول بلا مبرر مُظهراً وكأن المقاومة معتدية.

أما مهام وطبيعة عمل قطاع الثقافة فتختلف عن قطاع الإعلام، بل وربما تتعارض معه.. ففي قطاع الثقافة تبدو الفكرة أوسع حرية ويضعف فيه الانتقاء المنحاز ويصبح أقل تأثيراً، لأنه بالأساس ينبغي له أن يكون جهازاً إشرافياً على العمل الثقافي دون التدخل في مضمون العمل، فلا سلطان على الفكر إلا بفكر مماثل وليس بقرار أو توجيه بيروقراطي، فالثقافة بالأساس تستند على الإبداع الحر الذي يفترض به أن يكون غير خاضع للتبعية البيروقراطية.

إذن، ثمة اختلاف في ترتيب الأولويات بين قطاع الإعلام وقطاع الثقافة وبالتالي في إستراتيجية كل منهما، فالإستراتيجية هي فن ترتيب الأولويات؛ وجمعهما في وزارة واحدة سيخل في الترتيب المناسب للأولويات. ويؤيد أغلب المثقفين الذين قابلتهم الفصل بين القطاعين. وفي استطلاع لصحيفة اليوم السعودية الأسبوع الماضي لعدد من المثقفين والأدباء، كان كافة الذين تم استطلاع آرائهم مع الفصل بين قطاع الإعلام وقطاع الثقافة باستثناء أحد الإعلاميين.

والقول بفصل القطاعين عن بعضهما ليس مسألة ثابتة ومطلقة بل تعتمد على واقع الحال وما يحدث في المشهدين الإعلامي والثقافي. لقد كان القطاع الثقافي فيما قبل تابعاً للرئاسة العامة لرعاية الشباب، وكان ملحقاً لها وأداؤه ضعيف، حيث كانت الرياضة تحظى بأغلب الدعم لدرجة أن الكثيرين لم يكونوا يعلمون بأن قطاع الثقافة بما فيه الأندية الأدبية يتبع الرئاسة!

وقد تم تصحيح هذا الوضع ونقل قطاع الثقافة ليكون وكالة في وزارة، فيما أخذ قطاع الإعلام وكالة أخرى. وكان الوضع مشجعاً بادئ الأمر، وحظيت الثقافة بمحفزات وجرعات إنعاشية قوية خاصة بوجود الوزير إياد مدني ووكيله للثقافة عبد العزيز السبيل اللذين واكبا الحراك الثقافي بكفاءة عالية واقتدار، وأظهرا اهتماماً ودعماً للمؤسسات الثقافية، مما انعكس بشكل إيجابي واضح على واقعنا الثقافي.

لكننا الآن نشهد بداية حالة مشابهة لما حصل لقطاع الثقافة في الرئاسة العامة لرعاية الشباب، حيث قطاع الإعلام هو أقوى كثيراً في الوزارة، وأخذ يحظى بالاهتمام الأكبر شيئاً فشيئاً، ومن ثم يتبع القطاع الأول توجهات وسياسات الثاني دون استقلالية. وهنا يصبح الفصل أكثر إلحاحاً..

وأياً كانت الجهة التي يتبعها قطاع الثقافة، أو حتى لو كان القطاع مستقلاً بهيئة خاصة، فمن المهم التذكير بأن دور الجهة الرسمية التي تُعنى بالثقافة ينبغي ألا يتعدى الإشراف الفني والتنسيق والتنظيم، وهذا يذكرنا بدور مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، حيث يقوم بهذه الأعمال دون تدخل في محتويات الفكر المطروح أو توجهات المفكرين والمثقفين.

وليس الثقافة والمثقفين يحتاجون للاستقلالية فقط من الإعلام الرسمي، بل يحتاجون للحماية والدعم من الجهات الرسمية. فقدرة المثقف على الإنتاج، ناهيك عن الإبداع، تستلزم توفر دعم وحماية له في ظل ظروف اجتماعية لا تمنح الحرية الفكرية والثقافية أولوية، خاصة في أجواء الاستقطابات الفئوية والشعبوية وما ينتج عنهما من تغييب للوعي وللفكر العقلاني، وتهييج بعض العوام على المفكرين ذوي الآراء الجريئة والجديدة.

أتذكر عندما كانت هناك وزارة واحدة لقطاع الزراعة وقطاع المياه (وزارة الزراعة والمياه)، كان الأول يتجه نحو التوسع وما يصاحبه من استنزاف المياه، بينما قطاع المياه يتجه نحو المحافظة على المياه، ولأنّ الأول كان أقوى من الثاني، فقد طوعت سياسات وبرامج الثاني وفقاً للأول، ومن ثم توجت سياسات البلد مع الأول. بينما منذ تم الفصل بينهما، أصبحنا نتوجه نحو توازن بين الأمن الغذائي (قطاع الزراعة) والأمن المائي (قطاع المياه).

وعلى نفس المنوال، فإنّ فصل الثقافة عن الإعلام سيصب في مصلحة كلا القطاعين.. فإذا كان الإعلامي (في الدول النامية) والمثقف يسعيان إلى غاية واحدة (خدمة المجتمع)، فإنهما لا محالة يختلفان في الوسائل. فوظيفة الإعلام الرسمي الحفاظ على الاستقرار وضبط الأنظمة، بينما وظيفة المثقف النقد وطرح الأسئلة المحرجة.. الأول معني بالتوجيه والضبط الاجتماعي والثاني معني بالحرية والحقوق.. الأول لديه مسؤوليات محددة نظاماً حسب تخصصه، والثاني لديه مسؤوليات مفتوحة مرتبطة بقضايا عامة تتجاوز حدود تخصصه.. فالمثقف بما لديه من روح ناقدة وباحثة، ليس مسؤولاً عن نفسه، وإنما مسؤول عن كل البشر، على حد تعبير سارتر..



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد