تولد الأساطير من رحم التاريخ، وتصاغ أبجدياتها من ملابسات الواقع، وقد يتوهم البعض أن الحياة بكل أبعادها، الديني، والسياسي، والتاريخي، والاجتماعي قائمة على الحقائق الخالصة التي لا تشوبها شائبة، ولا تتدخل عوامل، أو قوى في الاختلاق، ويبقى تجريد الحقائق من زائفها مسؤولية أهل الاختصاص في كل فن من الفنون، أو علم من العلوم، والعرب وحدهم تختلط عندهم الأساطير بالحقائق، أما غيرهم من الأمم فقد تنسج من الخرافة وحدها، ويبنى عليها الحدث، وقد تبدو الأساطير بسيطة التأليف في بداياتها إلى أن تجد من يغذيها، ويحبك خيوطها، منطلقاً من حقائق محددة ومقنعة لكل الطبقات.
- في المملكة العربية السعودية حرّكت (هيئة السياحة والآثار) الماء الراكد، وتحرّرت، وهي تتعامل مع بعض الآثار من بعض الآراء الدينية في بعض المواقع المرتبطة ببعض القصص الدينية، فالتفت إلى ذلك أكثر من باحث ومهتم في شؤون التراث. وبالفعل فإن الحركة العلمية المعاصرة التي تؤمن بالحقيقة والتجريب في منهجيتها هي التي أملت على الأستاذ (محمد الفيصل) التفاتته إلى (قصر غيلان) في (عودة سدير) مسقط رأسه، ومرتع صباه. لقد أراد أن ينظر بعين الحقيقة ما ورثه عن آبائه وأجداده من حكايات، واعتبروها شبه مسلّمات، ليس تمرداً منه على القيم، أو الشك في أحداث التاريخ، أو التقليل من إنجازات الماضي، لكنه البحث عن المجهول من الحقائق التي قد تكون اندرست، أو جرى عليها شيء من التحريف، عمداً، أو بغير عمد، ولم يلتفت إليها الباحثون، ولم تسعفهم أدوات البحث العلمي في مرحلة سابقة من مراحل تاريخ هذه البلاد، وبخاصة إذا عرفنا أن هذه القصة، أو الأسطورة المشاعة عن هذا المكان لا تناقض العقل الإنساني ومنطقيته، إن لم تكن سبباً في توسيع مداركه، وشحذ همته، والاستعانة بالقوى الغيبية ثابت ومؤكد في القصص الدينية، تؤمن بها المجتمعات، وما من شك أن بعض الأساطير قامت عليها دول وممالك بقوميات مختلفة عبر التاريخ البشري.
- وأياً كان حجم أسطورة (غيلان)، وتشعّب الرواة فيها فإنها تشي عن مجتمع ذي حضارة، واستقلالية تامة، وسيادة مطلقة آنذاك، ويبقى الرهان على من يستطيع تحليل تلك الحقبة وأبعاد ثقافتها؟ وما المستوطنات، أو التجمعات البشرية التي ناوأتها؟ وما الحضارة القديمة التي كانت مهيمنة على الجزيرة العربية، أو بعض أجزائها؟
- مع كل أسطورة تنسج قصة نجاح حقيقية، تبنى عليها قيم وحضارات جديدة، وقد يكون ذلك الغموض الذي لفّ تلك الحقبة التي عاشها (غيلان) يشكل تحدياً كبيراً (لهيئة السياحة والآثار)، لترسم فصلاً من فصول نجاحها، وهي تجوب - عبر علماء الآثار، والمهتمين بالتراث - المملكة العربية السعودية، من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها.
- باعتقادي أن الفريق الزائر الذي استنفره منبر (الجزيرة) إلى ذلك المكان المهجور سيلتفت إلى ما فات على غيرهم من الباحثين، وسينفضون - من خلال مكتب الآثار بالمجمعة - غبار الأزمان السحيقة، مستنطقين الأسرار، ومستكشفين أدق أخباره، فهل سنحظى بعودة منهم إلى (عودة سدير)، وهل سيكون هذا المكان قبلة السائحين والباحثين عن تاريخ هذه المنطقة، منطلقين من الأسطورة لاستظهار الحقيقة، دون اصطدام بالمعتقدات؟ ا.هـ
dr_alawees@hotmail.com