أتذكر أن السماء العربية كانت صافية، كنت أتطلع إلى النجوم ليلاً وأنا صغير وأشعر حينها بأنني أستطيع تغيير مكان النجوم وتبديل نجمة بنجمة لكثرة ما هي مشعة وقريبة مني، لم تعد السماء العربية الآن صافية مثلما كانت..
.. فالتلوث الذي عتم بريق النجوم وغيَّر لون السماء وجعل ضوء القمر خافتاً، هو تلوث في الأرض العربية لأسباب كثيرة مختلفة ومتنوعة ومتشعبة وذات ألوان متباينة، فالفجر والشمس والتفاحة وأغصان الصفصاف والنوارس وشواطئ الأحلام والبيد المقمرة والتخوم كانت مفردات جميلة ورائعة لقصائدنا وأناشيدنا وسردنا القصصي، حتى أصبحت هذه المفردات كئيبة وعنيفة كسماء اسودت بخطايا الناس، عالمنا العربي أصبح الآن انفعالياً، عناصره وأشكاله توحي بالكتلة والحجم والحركة، لكنها ليست عناصر زاهية، إن الحفر والتنقيب المهول أوجد إرثاً كسيحاً في أساسيات الهيكل العربي، حتى أصبح هذا الهيكل شكلاً لا هندسياً ذا هرمونية غير واضحة من كثافة الألوان، عالمنا العربي أصبح اليوم يمتلك مخيلة غنية بالرموز والصور بشكل يبهر، إنه يحمل بين طياته رؤى متنوعة لا نهاية لها، لدرجة أصبح صوته استنباطاً للزمن الماضي، عالمنا العربي صار لبعضه إشارات وإيماءات وتلويحات قاصرة محاولة منه التغريد بتميز وبطقوس منفردة، عالمنا العربي صارت أعمال بعضه الآن تشبه الأعمال الفنية التجريبية التي تعمل على الخشب والقماش والورق، لا تخلو من التشخيص التعبيري الذي قد لا يوصل الفكرة المبتغاة في منتهى الدقة والتعبير، أفعاله بمثابة روايات ذات تدخلات رمزية ليس لها صدى واسع، لأن لها أكثر من تأويل في آن واحد، هذه أحد أسباب اتساع رقعته وتشرذمه وتيهه، لذلك تبدو تنويعات الفكر العربي وتطلعه التي يعمل عليها غير قادرة على منح الإنسان العربي رؤى جديدة يزاوج من خلالها بين ما يناسب فكره وتاريخه وبين ما هو داخلي في ذاته، إننا كعالم عربي لا نمتاز جيداً على استفراء الحاضر بطريقه فادحة، لكن لدينا مجسات غاية في الاستشعار لاستبطان المطمور تحت ركام الماضي وإعادة تبييضه في إشادة حد القيء بالأمجاد تليدها وبليدها، وإثر ذلك صارت لعالمنا العربي انتفاخات ونتوءات وتشوهات وحالات مرعبة ومخيفة. إن تصحر روح عالمنا العربي جاءت بسبب الظروف الكبيرة والمتشعبة التي صنعها وأطّر بها نفسه حتى بدأ الاضمحلال والانكماش والانحسار والكساح فيه واضحاً للعيان. إن وضع عالمنا العربي الآن يحتاج منا إلى جرأة نقدية وتشخيصات ذكية وعملية تطهيراً لعيوبه وأفعاله وتحركاته، وأول إجراء يستوجب البدء به هو فقء دمل حرمة النقد الهادف العادل الرزين المتميز البناء دون تخدير، إذ إن جسد عالمنا العربي هذا بحاجة إلى صدم عنيف وإفزاع يتناسب مع حجمه الكبير وتاريخه العظيم لفضح ظلامه ولتحفيز خلاياه الفكرية الميتة للرقي بثوابته نحو الفضاء البعيد أمام شراسة الآخرين وغاباتهم المتشابكة الأغصان. إن النعاس الذي غلف عيون عالمنا العربي يجب أن يكون طارئاً، ويجب أن توقد الشموع، ويجب أن تهبط الفراشات، ويجب أن يدخل الضوء ردهات المكان، ويجب أن نتزيّن بالأوسمة الذهبية، والأوشحة البرَّاقة، ويجب نتوق جيداً إلى معركة التصنيع والإبداع والابتكار والتحديث وتنمية القدرات المهنية والعلمية في جميع التخصصات التكنولوجية لتكون عندنا أشد من معركة البناء، ويجب أن تكون خطوطنا مقروءة، وأصواتنا مسموعة، ونمارقنا مصفوفة، وبيادرنا خضراء يانعة، وتطلعاتنا متقدة بالنجاح، في ظل الاشتعالات الكبيرة والخطيرة التي تطوّقنا وتحاصر وجودنا. إن على العالم العربي أن يستيقظ من غفوته الطويلة وركوده الممل، ليستأنف الحياة من جديد بروح وثَّابة غير وجلة ولا يائسة وليس بها كساح أو عويل.
ramadanalanezi@hotmail.com