إن الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف هو جانب من جوانب الاحتفاء بسيرته -صلى الله عليه وسلم- وحياته على وجه الخصوص، وما أجمل دعوة من دعا إلى تسمية هذا اليوم ب(يوم السيرة النبوية)؛ ففيه نبذ الخلاف.....
.....والابتعاد عن الشبهات، وعندما نفكر بعمق في قضية الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف نجد أنه في الحقيقة لا خلاف حول مشروعية الاحتفاء بالمولد أو بأي جانب من جوانب السيرة النبوية العطرة ما دام ما يجري فيه لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، بل يكون إحياء لهذه الذكرى العطرة في نفوس الأولاد والناشئة، خاصة وأنه -صلى الله عليه وسلم- قد اهتم بمولده واعتز به وبما كرمه الله فقال للصحابة عندما سألوه عن صيام يوم الاثنين (هذا يوم ولدت فيه).
يكفينا أن نسير إذاً على نفس المنهج من الأدب والاحترام في الاحتفاء بالمولد وبما يتفق مع منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من صيامه وقراءة القرآن فيه أو الجلوس في أدب مع العلماء لتذكر هذه السيرة النبوية، وهذا اليوم الذي ولد فيه -صلى الله عليه وسلم- دون تحديد وقت محدد، بل يكون طوال العام وفي كل يوم اثنين، كما فعل -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد احتفى هو بمولده فلا خلاف في أنه صلى الله عليه وسلم قد اهتم واحتفى بمولده، ولا خلاف في أن الصحابة قد فعلوا ذلك من بعده، بل حتى يومنا هذا يحتفي كثير من الناس احتراماً لمولده الشريف، فكل من سار على هديه هو في الطريق المستقيم، كل من حرص على إحياء هذه الذكرى بطريقة شرعية لا تخرج عن الكتاب والسنة؛ فهو على صواب، ولكن الخطأ يقع على من يفعل ما ليس من الكتاب والسنة، وهو ما يسمى بالبدعة التي منعنا عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
ودعونا نتفق على إزالة هذا الخلاف الذي نشأ بسبب كلمة (الاحتفال) بالمولد النبوي الشريف، أو جلسات الاحتفال بالمولد النبوي، فنقول لنجعله (يوم السيرة النبوية) نتذكر فيه مولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونشأته وصبره وجهاده وزواجه بالسيدة خديجة والظروف التي مرت به في مكة، ثم الظروف التي مرت به في الهجرة وغير ذلك من المواقف العظيمة، ونكتفي بأن يقرأ فيه القرآن وجوانب من سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مما ورد في كتب السيرة المعتمدة ونستمتع ببعض القصائد التي نظمت في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أصله ونسبه ومولده ودعوته، ثم نختم بالدعاء دون الحاجة إلى أي إضافات، وبالتالي، نتفق على هذا اليوم ليكون يوم السيرة النبوية.
والسبب الذي يدعوني إلى اقتراح ذلك هو أن الاحتفاء بمولده، واتباع سنته والجلوس لتذكر سيرته العطرة والانتفاع بها، وقراءة القرآن ودراسة الجوانب المختلفة لهذه السيرة لا يدخل ضمن البدع؛ لأنه موافق للشرع ولكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات أمرنا باحترام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واتباعه والسير على هداه؛ فقد جاءت الآيات الكريمات واضحات بينات في عظيم شأنه ورفعة مكانته -صلى الله عليه وسلم- حتى أنه سبحانه قد جعل طاعته من طاعة رسوله الكريم: ?مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ?، حتى أنه سبحانه وتعالى جعل محبته باتباع هذا النبي الكريم واحترامه: ?قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ?.
لا شك أن محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والفرح بسيرته أمر يجلب الخير للمسلم، وذلك لأنه حتى الكافر قد انتفع به، فهذا أبو لهب عندما سمع بولادة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- فرح وأعتق جاريته ثويبة التي بشرته بمولده، وقد جاء في الحديث في صحيح البخاري مرسلاً أن العذاب يرفع عنه يوم الاثنين، ويقول في ذلك الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدمشقي:
إن كان هذا كافر جاء ذمه
وتبت يداه في الجحيم مخلدا
اتى أنه في يوم الاثنين دائما
يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي كان عمره
بأحمد مسرورا ومات موحدا
وهذه القصة رواها البخاري في صحيحه في كتاب النكاح، ونقلها الحافظ ابن حجر في الفتح ورواها الامام عبدالرزاق الصنعاني في المصنف.
أن الفرح به صلى الله عليه وسلم مطلوب بأمر القرآن من قوله تعالى: ?قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ? (58) سورة يونس، فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أعظم رحمة بعثها إلى الناس كافة، بل إلى كل العالمين، قال الله تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ? (107) سورة الأنبياء.
كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت وانقضت - فإذا جاء الزمان الذي وقعت فيه كان فرصة لتذكرها، وتعظيم يومها، لأجلها ولأنه ظرف لها..
وقد أصَّل -صلى الله عليه وسلم- هذه القاعدة بنفسه، كما صرح في الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى المدينة ورأى اليهود يصومون يوم عاشوراء سأل عن ذلك فقيل له: إنهم يصومونه لأن الله تعالى نجى فيه نبيهم وأغرق عدوهم فهم يصومونه شكراً لله على النعمة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (نحن أولى بموسى منهم فصامه وأمر بصيامه).
وخلاصة القول: إن الاحتفاء بالمولد هو إحياء لذكرى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وعندما يكون في إطار مجالس العلم والمواعظ.. وآداب الدين الإسلامي، فهو أمر استحسنه مجموعة من أهل العلم لما في ذلك من ارتباط بسيرته -صلى الله عليه وسلم- وتتبع لمعجزاته وسيرته وشمائله، وقد أمر الله بالاقتداء به والسير على نهجه، وهو قدوتنا عليه الصلاة والسلام.
فإذا كان في قصص الأنبياء تثبيت لفؤاده الشريف، فإن في قصص حياته المباركة أعظم التثبيت لقلوبنا، ونحن أحوج إلى التثبيت ليكون أسوة لنا ولأبنائنا.. عسى أن نكون على دربه من السالكين، وإلى سبيله من الداعين.. وعلى حوضه من الواردين.. ومن هنا، كانت الدعوة إلى أن نقف عند هذا اليوم الكريم لمولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحتفي به ونتعمق في القرآن الذي ذكر مولد مريم بنت عمران، وأشار إلى مولد موسى وعيسى ويحيى عليهم السلام في إطار التنبيه، ثم جاءت الكتب السابقة تبشر بدعوته -صلى الله عليه وسلم- قبل نزول القرآن.
والسيرة النبوية المطهرة قد تناقلت أخبار مولده -صلى الله عليه وسلم- للأمة بفرح وأشجان، وبالغيظ والطغيان من حديث حسان، إذ سمعت يهودياً يصرخ، بأعلى صوته على أطم بيثرب: يا معشر يهود، حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له ويلك ما لك؟ قال طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به، وهو بهذا يشير إلى مولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما عرفوه عندهم.
وإنني أعود مرة أخرى للتأكيد على أن الاحتفاء بالمولد ينبغي أن يكون خالياً من كل مخالفة شرعية، لأن حب النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجب علينا الالتزام بهديه والعمل بسنته، ولأن الحب يقاس بالالتزام والاتباع، كما قال الله عز وجل في كتابه: ?قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? (31) سورة آل عمران.
ولا شك أن ظروف العصر الذي نعيش فيه وتعود الشباب وولعهم بالاحتفالات وخاصة الاحتفالات بأعياد الميلاد وأعياد الزواج وأعياد النجاح وغيرها قد أوجدت في أنفسهم ميولاً شديدة للاهتمام بهذه المناسبات، هذا بالإضافة إلى ما نتعرض له من غزو إعلامي عالمي فضائي وما يعرض في قنواته من اهتمام ببعض المناسبات ذات الصفة العالمية قد أضافت لاهتماماتهم اهتمامات بمناسبات أخرى بالإضافة إلى المناسبات التي ذكرناها، وهذا يحتاج منا إلى أن نفكر بعمق وهو أننا إذا قمنا بمنع ذلك كله لن نصل إلى قلوب الشباب، ولكن من الممكن أن نستبدل تلك القيم لديهم بقيم أخرى مهمة لنا كمسلمين وبأيام خالدة في تاريخنا الإسلامي كيوم المولد والبعثة والهجرة والمعارك الإسلامية التي غيرت تاريخ الإسلام وتاريخنا مليء بتلك الذكريات الخالدة فنربطهم بها بما يملأ الفراغ في أنفسهم، وهذا أفضل من المقاطعة والتأنيب والشجب لأنه لا يحقق الأهداف التي نرجوها.
وختاما.. فإنني أرى أنه من المناسب أن نقف عند هذه المناسبات لنحتفي بها وخاصة بمولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونقتدي به يوم احتفى بهذا المولد وعلّم الصحابة رضوان الله عليهم أنه يصوم يوم الاثنين لأنه يوم ولد فيه؛ فنحن أولى بالسير على هداه، ومثل هذه المواسم العطرة تربطنا بسيرته صلى الله عليه وسلم وتجعل القلوب والعقول تهفو نحوه وتحنو إليه، وإذا كان جذع جاف حن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبكى حتى نزل إليه من فوق المنبر - بأبي أنت وأمي يا رسول الله - واحتضنه، فسكن الجذع بعد أن خيره فاختار أن يكون معه -صلى الله عليه وسلم- في الجنة.. فهذا الجذع الجاف يحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. أفلا تحن قلوبنا إليه وإلى سماع سيرته العطرة، وقد أحبه كل ما في الكون من جماد وحيوان وإنس وجان.. وأن الله سبحانه وتعالى أكرم به العالمين وجعله رحمة لنا ولهم أجمعين.
فلا بد إذاً أن تتسع صدورنا للحوار: وقلوبنا للحب، وعقولنا للفهم، وأن يتسم حوارنا بالأدب ونحن نتناول مولده -صلى الله عليه وسلم- وجوانب سيرته العطرة فنربط الناشئة بذلك، مختلف المناسبات، وإن كان أدعى أن يكون في يوم ولادته وهو يوم الاثنين، كما فعل عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام، وبما يتفق مع منهج الإسلام الحنيف، ويكون فرصة لنتعلم جوانب من هذه السيرة العطرة ونعلمها لأهلنا ولأولادنا، بل ما أجمل أن نغتنم الفرصة لننشر نماذج منها على العالم باللغات المختلفة لربطهم بها حتى يعيشوا هذه الذكرى العطرة، بل أنه من الممكن في رأيي أن نقدم السيرة النبوية في صور بسيطة وبلغة يفهمها القوم الذين لا يدينون بالإسلام، ليتعلموا من هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صاحب الخلق العظيم الذي بعثه الله رحمة للعالمين.
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.