في حين يواجه زعماء منطقة اليورو قدراً متزايداً من عدم اليقين في الأسواق المالية بشأن الأوضاع المالية العامة في اليونان وغيرها من الدول الأعضاء، فإن تصريحاتهم على الرغم من بعض الغموض تسلط الضوء على قضية أشد خطورة، وهي القضية التي من شأنها أن تدفع الشركات والمستثمرين إلى التشكك في افتراضاتهم حول البيئة الاقتصادية والمالية والسياسية في أوروبا.
كان دعم كفاءة السوق الداخلية ومنع تقلب أسعار العملات من بين الضرورات التي دعت إلى إنشاء عملة اليورو. ولكن إنشاء اليورو كان نابعاً أيضاً من قناعة أوروبية عميقة بأن المؤسسات الممتدة إلى ما وراء الحدود الوطنية والترابط الاقتصادي من بين العوامل التي ساعدت على ترسيخ السلام ودعمه في مختلف أنحاء القارة طيلة العقود الستة الماضية. وفي عالم يتسم بضعف المؤسسات المتعددة الأطراف - بما في ذلك مجموعة العشرين التي تعاني من خلافات كبيرة في الرأي بشأن مسائل أساسية - فمن المهم أكثر من أي وقت مضى أن تعمل حكومات منطقة اليورو على تعزيز نفوذها الجمعي في بيئة عالمية تنافسية وغير مستقرة وغير مسبوقة.
وبالنسبة للبلدان الأعضاء فإن أهمية منطقة اليورو ببساطة أعظم من أن يُسمَح لها بالفشل. وهذا يعني أن العديد من المشكلات التي تواجهها بلدان منطقة اليورو الآن سوف تستلزم تكيف كل من هذه البلدان مع القواعد الضريبية وظروف الإنفاق في البلدان الأعضاء الأخرى. ولكن النتائج سوف تتفاوت إلى حد كبير من حكومة إلى أخرى - وهي المشكلة التي طالما تكررت أثناء العقود الطويلة من السعي إلى الاستقرار الداخلي للعملة. وهذا التفاوت في السياسة المالية راجع إلى أسباب كثيرة، ولن تنجح صدمة واحدة في تغيير هذا الواقع.
إن فهم الأهمية المتزايدة للسياسة المالية يواجه قدراً عظيماً من التعقيدات بسبب الارتباك بشأن الكيفية التي تتخذ بها حكومات منطقة اليورو المختلفة قراراتها السياسية - وهي العملية التي تعتمد على خليط معقد دائم التغير من العوامل المؤسسية الغامضة والديناميكيات السياسية المحلية التي تتفاوت إلى حد كبير من بلد إلى آخر. وفي عصر حيث بات الإفصاح والشفافية يشكلان القاعدة السائدة في أغلب جوانب الحكم الأوروبي، فإن السياسات المالية ما زالت تبدو أشبه بدبلوماسية المؤتمرات التي كانت سائدة في أوائل القرن التاسع عشر.
هذا هو الواقع الأوروبي الجديد، وليس مجرد هفوة لحظية في إطار نظام جيد. ويتعين على الشركات والمستثمرين المعرضين للخطر في أوروبا أن يتحملوا المزيد من التقلبات في أسعار الفائدة داخل منطقة اليورو فضلاً عن النمو المتفاوت على نحو متزايد وتوقعات التضخم. ولا ينبغي لمسألة تقارب عائدات الديون السيادية، التي فرضها ضمناً تأسيس العملة الموحدة، أن تعود.
إن غياب إطار ثابت من شأنه أن يرغم المستثمرين على إعادة النظر في القرارات المتعلقة بتخصيص الأصول وتقييم المجازفة. وكما بدأت سوق السندات أخيراً في تقييم المجازفة النسبية الأعظم في منطقة اليورو، فإن الأسس الفكرية التي تقوم عليها فكرة التقسيم العالمي بين سندات الأسواق الناشئة وسندات الأسواق المتقدمة سوف تخضع لاختبار أساسي.
سوف تكون هذه التحولات تدريجية ومستمرة وسوف يكون المستثمرون أقل قدرة على توقع هذه التحولات مقارنة بما كانت عليه الحال أثناء العقد الأول الهادئ الخادع من عمر اليورو، حين بدأ تأسيس اتحاد العملة، إلى جانب توسع الاتحاد الأوروبي، وكأنه يسهم في خلق بيئة مستقرة حميدة.
وأخيراً، فإن التحولات الملموسة والدائمة في السياسات العامة لن تقتصر على البلدان التي تعاني من متاعب مالية مباشرة. ففي القريب العاجل قد تبدو السياسة المالية الألمانية مختلفة تمام الاختلاف عن الميل إلى سياسة انعدام العجز التي سادت في ظل الائتلاف الكبير الذي حكم أثناء الفترة من عام 2005 إلى عام 2009 فأثناء تلك الفترة كانت معسكرات خفض العجز بين كل من الديمقراطيين الاجتماعيين والديمقراطيين المسيحيين تسعى إلى تحويل مسألة درء الضغوط من فصائل أخرى داخل حزبيهم إلى قضية مشتركة من أجل تغيير السياسة.
غير أن هذا الهيكل لم يعد له وجود، فاليوم يريد جناح اليمين خفض الضرائب، أما اليسار الذي يعيد بناء نفسه الآن فقد يسعى إلى زيادة الإنفاق. ولا أحد يعتقد أن ألمانيا معرضة لخطر العجز عن سداد ديونها، ولكن المستثمرين يتغاضون عن هذا النوع من التحول في السياسات على مسؤوليتهم الخاصة، فلا شك أن أي تغيير كبير في اتجاه السياسات داخل أضخم اقتصاد في منطقة اليورو قد يكون ذا تأثير أعظم من التطورات الجارية في اليونان على الاتحاد النقدي.
ونظراً للصراع الداخلي حول الضرائب والإنفاق، فقد تكون ألمانيا وليس اليونان هي أول بلد من بلدان منطقة اليورو يشهد سقوط الحكومة.
خاص (الجزيرة)