من نعم الله تعالى على هذه البلاد، المبادرات الإيجابية السريعة التي تصدر عن القيادة الحكيمة فيها في المشاريع والإنجازات التي تتوخى فيها مصلحة الوطن والمواطن والأمة.. من ذلك القنوات التلفزيونية الأربع التي أطلقتها وزارة الثقافة والإعلام مؤخراً دفعة واحدة، وكان من بينها القناة التلفزيونية الثقافية العتيدة!
وهذه السرعة في إنجاز هذه المشاريع الإعلامية وأمثالها وأشباهها من المشاريع العلمية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، أو في البدء في القيام بها على الأقل تعود إلى عدة أسباب:
- توفيق الله وتيسيره أولاً.
- ثم اقتناع ولي الأمر بها ووضوح الرؤية تجاهها ثانياً.
- وثالثاً.. توفر المال اللازم لها وهذا من فضل الله وتأييده وعطائه الجزيل وكرمه الأصيل سبحانه وتعالى.
***
حضرتُ حفل عشاء قبل عدة أيام أقامه شخص كريم مارس بنجاح فائق العمل السياسي والإعلامي والدبلوماسي أكثر من خمسين عاماً، أقامه على شرف معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور (خوجه) وحضره لفيف من المسؤولين والمفكرين والإعلاميين منهم عدد من الوزراء، وأعضاء مجلس الشورى، ورئيسا تحرير صحيفتين كبيرتين من الصحف المحلية، وعدد من العاملين في الصحافة والمهتمين بالشأن العام.. وكان معظم الحديث الذي دار في ذلك الحفل بين الوزير الضيف، وصاحب الدعوة، والمدعوين، قبل العشاء وفي أثنائه يدور حول القناة التلفزيونية الثقافية، والتي أصبحت بصورة فجائية حقيقة واقعة!!
اتفق الجميع على أن هذه القناة، قامت وبدأت العمل دون تحضير وتخطيط واستعداد مسبق وكان ينبغي لها أن لا تقوم قبل جهود مضنية مسبقة تبذل في ميدان التحضير والتخطيط والاستعداد!
واتفقوا كذلك على أن القناة بدأت قبل تهيئة (الكادر) الفني اللازم لها من مذيعين ومحاورين وفنيين وإداريين وغير ذلك، وكان ينبغي أن يُهيأ هؤلاء الناس بصورة حرفية مهنية قبل أن تبدأ القناة في العمل!
وتحدثوا كذلك في الأهداف الرئيسة التي يجب أن تعمل هذه القناة على تحقيقها.. وتحدثوا في التمويل اللازم وأنه يجب أن يكون سخياً لتتمكن من خدمة أهدافها بصورة جيدة.. وأجمعوا على ضرورة التأني والتمهل في اختيار الشخص المسؤول الذي سيكون مديراً لهذه القناة.. وتمنوا على معالي الوزير أن يختار شخصاً مثقفاً واعياً ذا خبرة واسعة ودراية كبيرة يكون شاباً في عقلية الشيوخ، وشيخاً في همة الشبان وحركتهم وحيويتهم!!
ولقد اختار معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور (خوجة) اختار أو كلف الأستاذ (محمد بن إبراهيم الماضي) قبل أيام ليكون مشرفاً على هذه القناة.. أنا لا أعرف الأستاذ (الماضي) وأتمنى له من أعماق قلبي النجاح والتوفيق في عمله.. ولكنني في نفس الوقت أدرك الصعوبات الكثيرة التي ستواجهه في عمله، والمسؤوليات الكبيرة التي عليه أن يتصدى لها ويتحملها!
ولعلنا نتذكر أن وزراء الثقافة العرب قد اتفقوا فيما اتفقوا في اجتماعهم الذي عقدوه في العاصمة الأردنية (عمّان) قبل أكثر من عشر سنوات، وكان يمثل (المملكة) في ذلك الاجتماع، صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز عليه رحمة الله، اتفقوا على إقامة قناة ثقافية تلفزيونية عربية.. ولقد بادرت إمارة (الشارقة) بدولة الإمارات العربية المتحدة إلى التبرع بأرض وتخصيصها لإقامة هذه القناة الثقافية عليها. ولكن مضت السنوات العشر أو أكثر ولم تقم القناة! والأسباب معروفة: أسباب سياسية.. فمن يحدد وجهة هذه القناة؟ ومن يحدد أهدافها؟ وأسباب اقتصادية مادية فمن يتكفل بمصاريفها ومن يقوم بتسديد النفقات التي تترتب عليها بعد إقامتها.. وفي اعتقادي أن من الأسباب الأخرى، الأسباب العملية الفنية التي في طليعتها اختيار مدير لهذه القناة، وتهيئة الكادر البشري المؤهل لتنفيذ ما يبث فيها من برامج وغيرها!!
أحسب أن الأهداف التي يجب أن تعتني بها قناتنا التلفزيونية الثقافية السعودية، وتسعى إلى خدماتها أحسب أنها يمكن أن تتحدد في أربعة ميادين أو محاور:
- المحور الأول هو المحور المحلي الذي يعتني بالثقافة السعودية ويسلط الأضواء على أربابها ومصادرها.
- والمحور الثاني هو المحور العربي، الذي يعتني باللغة العربية وعلمائها وشعرائها وأدبائها ويعتني كذلك بالمؤسسات والجامعات والميادين التي تزخر وتفتخر وتحتفل بهذه اللغة العظيمة.
- والمحور الثالث هو المحور الإسلامي الذي يقتضي العناية بكتاب الله القرآن الكريم والسنة النبوية والسيرة المحمدية والتاريخ الإسلامي وشخصياته التي غيّرت مجرى التاريخ، والحضارة الإسلامية التي نقلت الناس من سجون الجهل إلى آفاق العلم، ومن درك الظلمات إلى مدارج النور والتمدن والتقدم.
- والمحور الرابع والأخير هو المحور العالمي الذي يجب أن يأخذنا إلى ما عند غيرنا من أدب وعلم وفن وما في حوزته من تجارب مفيدة، وعطاءات مثمرة، وما لديه من حكمة وتقدم وازدهار.
إن من الأمثلة الحية الماثلة أمام أعيننا، من القنوات الثقافية، قناة (اقرأ) وقناة (الرسالة)، وهما بطبيعة الحال، قناتان ثقافيتان إسلاميتان ناجحتان، وباستطاعتنا أن نستعرض عطاءاتهما والبرامج التي نجحتا فيها، والشخصيات التي كان لها دورها المميز وراء تلك البرامج، وكان لها أثرها الكبير في أوساط الجماهير.
إن أشخاصاً من أمثال الدكتور (عائض القرني) والدكتور (عبدالله المصلح) والدكتور (فهد بن سلمان العودة) والدكتور (يوسف القرضاوي) والدكتور (محمد سعيد رمضان البوطي) والدكتور (محمد عمارة) والدكتور (محمد راتب النابلسي) والدكتور (طارق الحبيب) والدكتور (سليم العوا) والدكتور (عصام البشير) والدكتور (عمر عبدالكافي) والدكتور (عمرو خالد) والدكتور (عبدالرحمن العشماوي) والدكتورة (عبلة الكحلاوي) والدكتورة (لينا الحمصي) والشيخ (رجب ديب) والدكتور (علاء الدين الحموي) والأستاذة (حنان اللحام) والأستاذة (حنان أحمد قطان) والأستاذة (نوارة هاشم) والشيخ (نعيم العرقسوسي) والدكتورة (رفيدة الحبش) والدكتور (جميل القدسي الدويك) والأستاذ مصطفى حسني وغيرهم، ممن أعدّوا وقدموا برامج وحوارات وندوات في إحدى هاتين القناتين أو في كليهما وسجلا نجاحاً مرموقاً وقبولاً مميزاً لدى الناس بصورة عامة.. إن هؤلاء العلماء والمفكرين والدعاة والباحثين من الرجال والنساء الذين نجحوا في البرامج التي ظهروا خلالها جديرون بأن توجه لهم الدعوة للمشاركة في برامج القناة التلفزيونية الثقافية السعودية.
نقطة أخرى تتعلق بالمحور الإسلامي الذي يجب أن تخدمه قناتنا الثقافية السعودية.. فهناك بعض البرامج والمواد التلفزيونية القيمة التي خلفها أصحابها وراءهم وانتقلوا إلى رحمة الله ورضوانه بإذن الله، جديرة بالإعادة وجديرة بالإشادة، وأن يهتم بها بحيث تستفيد الأجيال القادمة من مشاهدتها ومتابعتها.. ومثل هذه المواد التلفزيونية، لا يضيرها أن تُعاد، ولا يؤثر في زيادة الفائدة منها أن تكرر؛ مثل ذلك: أحاديث الشيخ (علي الطنطاوي) عليه رحمة الله في برنامجه (نور وهداية) وخواطر الشيخ (محمد متولي الشعراوي) عليه رحمة الله في تفسيره للقرآن الكريم، وأحاديث الدكتور (مصطفى محمود) عليه رحمة الله في برنامج (العلم والإيمان).
أضف إلى ذلك المسلسلات التاريخية الإسلامية الكبرى أمثال، (عمر بن عبدالعزيز) و(الخنساء) و(جمال الدين الأفغاني) و(عز الدين القسام) والمسلسل الذي صوّر لنا حياة الشيخ (عبدالحليم محمود) والمسلسل الذي صور لنا حياة الشيخ (محمد متولي الشعراوي) ومسلسل (على هامش السيرة) وغيره وغيره.
إننا نطمع أن نرى أن قناتنا الثقافية التي نتحدث عنها.. نطمع أن نرى مواصلة لإنتاج مسلسلات جديدة تُعنى بالتاريخ الإسلامي، وشخصياته المميزة العسكرية والدعوية والعلمية التي كان لها أدوار بارزة في مسيرة الحضارة الإنسانية.
كذلك فنحن نتشوق إلى رؤية مسلسل عالي المستوى عن شخصية المؤسس، مؤسس المملكة العربية السعودية (الملك عبدالعزيز) عليه رحمات.. عن نشأته وحياته، وعن تربيته، عن لقاءاته الدبلوماسية، وعن ميادين جهاده وتضحياته، وعن إصلاحاته، والمبادئ التي عمل لها والقضايا الأساسية التي جاهد لتحقيقها... ومسلسلات عن أبنائه الملوك (سعود) و(فيصل) و(خالد) و(فهد) يرحمهم الله، وعن الملك (عبدالله بن عبدالعزيز) متعه الله بالصحة والعافية، وأمده بالعمر المديد حتى يتمكن من إتمام رسالته الإصلاحية الخيرة في الحياة.
نتطلع كذلك لأن نتعرف من خلال المسلسلات أو من غيرها على الشخصيات المهمة في تاريخ المملكة، كوالد المؤسس الأمير (عبدالرحمن الفيصل) والشيخ (محمد بن عبدالوهاب) والأميرة (نورة بنت عبدالرحمن) والشيخ (محمد بن إبراهيم آل الشيخ) عليهم رحمات الله والشخصيات التي كانت مع الملك عبدالعزيز وساهمت في خدمة الوطن وبناء الدولة كالوزير (عبدالله السليمان) والدكتور (مدحت شيخ الأرض) والدكتور (رشاد فرعون) والشيخ (يوسف ياسين) والسيد (حافظ وهبة) والشاعر (خير الدين الزركلي) ومن جاء بعدهم، كالسيد (عبدالله كامل) والشيخ (محمد النويصر) والشيخ (عبدالعزيز التويجري) وغيرهم وغيرهم.
نتطلع كذلك أن تعرفنا القناة الثقافية على شخصية الأميرة (العنود بنت عبدالعزيز) التي كان يحبّها أبوها (الملك عبدالعزيز) كثيراً والتي كان (الملك فيصل) لا ينام قبل أن يزورها في بيتها في شارع (الوزير)، ويستمع إلى ما لديها من آراء، ويتعرف على من التقى بها من النساء، وما هي طلباتهن، وما هي احتياجاتهن ليقوم بدراستها، وتنفيذ الصالح منها!
لقد ركزت كثيراً على المحور الإسلامي الذي يجب أن تحتفي به القناة الثقافية، وتطرقت إلى بعض الجوانب كالشخصيات المهمة التي يجب أن تعتني به هذه القناة في المحور المحلي. على أن بقية الجوانب في هذا المحور وفي المحورين العربي والعالمي أمور معروفة ينبغي تحديدها أولاً، ثم العناية بها وتسليط الأضواء عليها.
وبعبارة أخرى فإن الميادين العامة التي يجب أن تعتني بها القناة الثقافية هي ميادين الأدب والشعر والقصة والغناء والموسيقى والفنون المختلفة، والرجال والنساء الذين برزوا في هذه الميادين وكان لهم عطاءاتهم الخيّرة، وآثارهم المضيئة.
ولكي نكون واقعين.. ولكي نُحسن التصرف بعدما قامت (القناة التلفزيونية الثقافية) فجأة ودون تحضير مسبق، أو استعداد قبل البدء، فلابد من أن نتوقع بعض الكبوات في البدايات، وأن لا تستوي هذه القناة على سوقها قبل مضي بعض الوقت الذي أرجو الله سبحانه وتعالى أن لا يطول كثيراً.. ورأيي الذي أضعه بين يدي القائمين على أمر هذه القناة يتلخص في الآتي:
أولاً: عدم زيادة مدة الإرسال البرامجي اليومي، وفي اعتقادي أن المدة التي وقع عليها الاختيار وهي اثنتا عشرة ساعة يومياً طويلة جداً. ويجب الوقوف عندها إلى إشعار آخر لا يكون قريباً.
ثانياً: العمل على انتقاء الصالح من المواد التي تم إنتاجها كبرامج الشيخ (الطنطاوي) وبرامج (الشيخ الشعراوي) وبرامج الدكتور (مصطفى محمود سابقاً) مما اقترحته سابقاً، ومما يقترحه غيري، ورفد هذه القناة بها.
ثالثاً: تكليف العلماء والمفكرين والأدباء والدعاة وأساتذة الجامعات ممن اقترحتهم وممن يقترحهم غيري بإعداد وتقديم البرامج المناسبة لهذه القناة.
رابعاً: الاستعانة بخبرات القنوات التلفزيونية الأخرى التي نجحت في تدريب المذيعين والمذيعات وغيرهم من العناصر البشرية الفنية الأخرى وبخاصة في مجال المحاورة والاستضافة والتقرير والإعداد والتقديم، كقناة (الجزيرة) وقناة (العربية) وقناة (اقرأ) وقناة (الرسالة) وقناة (المنار) وقناة (المستقبل) وقناة (L.B.C) وغيرها.. الاستعانة بخبرات هذه القنوات في تدريب وتأهيل العناصر البشرية التي تكون في خدمة هذه القناة وتعمل على تطويرها وتقدمها
خامساً: تشكيل مجلس مرجعي، يُرجع إليه بصورة دورية في كل ما يتعلق بإدارة هذه القناة وتطويرها والعمل على دفع مسيرتها إلى الأمام، يكون أعضاؤه من كبار المثقفين في بلدنا هذا والمهتمين بالشأن الإعلامي، وأقترح أن يكون من بينهم، الشيخ (جميل الحجيلان) والشيخ (أحمد زكي يماني) والدكتور (غازي القصيبي) والدكتور (عبدالله التركي) والدكتور (إبراهيم العواجي) والدكتور (عبدالرحمن الشبيلي) والدكتور (بدر كريّم) والأستاذ (حمد القاضي) والدكتور (إبراهيم التركي) وغيرهم وغيرهم.
على أن الوصول إلى مواد تلفزيونية تُنتج إنتاجاً خاصاً لهذه القناة وتحقق المستوى المطلوب.. إن هذا الأمر يتطلب الإنفاق في هذا الميدان الذي لا أقول بلا حساب، بل يتطلب الإنفاق الكثير.. فالساحة مليئة بالفضائيات المتصارعة، والمختصون المهتمون المجيدون في ميدان الثقافة من الرجال والنساء ليسوا كثيرين، والمال مهما علا قدره أو عظمت قيمته، يبقى أقل من الحصول عليهم، والفوز بإنتاجهم وعطاءاتهم!
أنا لا أعرف - كما أسلفت - الأستاذ محمد بن إبراهيم الماضي الذي كلف مؤخراً بالإشراف على هذه القناة، ولكنني أعرف من يعرفونه وقد وصفوه لي بالجدية والمتابعة والحرص الكبير على تقديم الأفضل بصورة دائمة.. ويتضح لي من معالجاته التي قرأت بعضها لكثير من الأمور الفنية أنه إنسان واعٍ يعرف ما يريد.. على أن المهمة التي وضعت على عاتقه الآن مهمة صعبة وشاقة، تتطلب الصبر الجميل والصدر الواسع والنظرة البعيدة، والقدرة الفائقة على التحمل.. وأن يضع الأهداف المنشودة المرجوة نصب عينيه دائماً وأبداً، وأن يرفض التوقف في الوصول إليها فضلاً عن التراجع عنها.. وقبل ذلك ومعه وبعده يتطلب القبول بهذه المهمة من الأستاذ (محمد الماضي).. يتطلب اللجوء إلى الله، واستنزال معوناته ورحماته، وفي الحديث الشريف: (احفظ الله يحفظك - احفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله...)
وفي الدعاء: (اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْنَ إذا شئت سهلاً)
د. زهير الأيوبي
الرياض في 23 صفر 1431هـ
للاتصال وإبداء الرأي z_alayoubi@hotmail.com