Al Jazirah NewsPaper Thursday  18/02/2010 G Issue 13657
الخميس 04 ربيع الأول 1431   العدد  13657
 
القراءة وأهمية التأصيل المنهجي
عبدالله بن محمد السعوي

 

تشكل القراءة المصدر الأعظم لتكوين بنية ذهنية متفتحة ولصياغة عقل يتوقد توهجاً فيباشرمسؤولياته بدرجة عالية من العطاء المتدفق وعمق الفاعلية النائية الغور.

توثيق مستوى الصلة بالكتاب هوالشرط المحوري الأول لإعلاء سوية ملامح المركب العقلي وتعزيزوتيرة رصانته والنأي به عن بواعث التآكل. وكما أن القراءة تُمَلّك ذويها القدرة على التفكير الممنهج الذي يضع الأشياء في سياقها المعتبر وتؤسس ضرباً من الوعي بالأبنية المفاهيمية ذات الوشيجة العميقة بحياة الإنسان وبالغاية النهائية لوجوده فإنها أيضاً عندما توظف بآلية مشوهة فإنها تمارس دورا معكوسا لايساهم إلا في مضاعفة انحطاط الإنسان بعد مباشرة تغييب وعيه عن معاينة الأفق الذي يجدر به معانقة محدداته.

الانفتاح القرائي الذي لم يؤطر من خلال استصحاب الشرط العقدي ولم يعقلن بالتأصيل الشرعي الممنهج هو في حقيقته ضرب من الفوضى المفضية إلى إرباك العقل وخلخلة توازنه وإفقاده مقومات الحضور الفعال.

ومن هنا فإن كثرة القراءة ليست دليلاً مطلقاً على وجاهة التوجه الفردي في كل حال، بل في أحيان كثيرة تكون كثرة القراءة سبباً رئيسياً للسقوط في مستنقع الجهل والالتياث بتجلياته، أي أنه كلما تضاعف منسوب (الكم) القرائي تضاعف في المقابل الاغتراب عن (الكيف) المعرفي المؤطر بأدبيات الموضوعية؛ كلما اتسعت مساحة الحيز الزمني المخصص للقراءة تكثفت في المقابل مرشحات الانغماس في فخاخ الجهل.

القارئ هنا كلما ازداد قراءة ازداد جهلا والجهل يلتهمه بقدر مايلتهم هو من هذه الكتب التي لاتؤسس إلا إلى المزيد من الاكفهرار العقلي. وبطبيعة الحال فالذم هنا منصرف لا إلى جنس القراءة وإنما هو اعتباري ينصرف لما هو متعلق بفعل القراءة من ذلك اللون القرائي المنطوي على وصف يقتضي محورية شجبه.

إن تضاؤل الخلفية المعرفية المتصلة بالعلوم الشرعية وضمور المحصول الثقافي المكتسب في هذا المجال يفقد العقل القدرة على محاكمة الأطروحات المتباينة ولذا فهوعندما يقرأ وخصوصاً في الأطروحات ذات المضمون الثقافي الملغم التي تغازل عقل المتلقي من خلال العدّة البيانية والحذلقة العباراتية فإنه حينئذ يقع أسيرا للمقروء فيتلقف كل فكرة وينساق خلف كل خاطرة ويستسلم لهذا المؤلف الذي يلتهمه بسهولة فائقة.

وكم من عقل دلف في دهاليز التيه وبالتالي قضى نحبه بفعل تعلقه بكتب موغلة في الانحراف ولم تسعفه الخلفية الثقافية الواهنة على إبداء أي قدر من التمنع المنبثق من إمكانيات تحليلية ومهارات جدلية تؤهله لتعاطي النقد العلمي في أعمق صوره.

إن الفاقد للتأصيل الشرعي عندما ينهمك في التعاطي القرائي مع الأطروحات المغايرة عقدياً فإن وعيه يألفها ويستهلك تلقائياً كافة مفرداتها دون أن يمارس إزاءها أي مساءلة فضلا عن أدنى درجات المشاكسة ودون أن يطالها بأي ضرب من الشك المنهجي ولذا فهي تختطف وعيه إلى درجة أنه لايسكن إلا إلى ما استكن فيها من أفكار يتعذر عليه أن يفكر بنقيضها البتة!. ليس بمقدور مثل هذا الوعي المتواضع أن يحاكم أي أطروحة مشبوهة، لماذا؟ لأن المحاكمة المعرفية للمقروء تستلزم تعقل وجوه مجافاته للدليل وإدراك حيثيات التنديد الشرعي به، وهذا شأن يتوقف على وجود بصيرة ذات طابع تفصيلي بالموقف الديني الذي يدحض تلك الفكرة المطروحة ويأتي عليها من قواعدها وهذا هو ما ليس بقدرة ذلك المتلقي ولا هو في حدود طاقاته وذلك عطفاً على جهله التام الذي لايؤهله لوعي الأدوات التي يتسنى له عبرها البرهنة على تهافت ذلك الطرح ومن هنا لايجد أمامه إلا الانصياع لتلك الفكرة التي يخيل له أن خلو ذهنه من المعارض لها يلزم منه الوجود العدمي لذلك المعارض! يشهد المشهد الثقافي اليوم انفجاراً معرفياً مذهلاً والأوعية المعرفية والكتاب على ذروة سنامها تعالى حجم طوفانها فهي تتدفق من كل حدب وصوب والمطابع تقذف بالكتب على نحو فاق كل تصور وأضحينا أمام أمواج من الأطروحات التي يتقاسمها السمين والغث كما نرى في ذلك الصنف الذي يبعث الشبهات ويحيي الشكوك وينظّر للانقلاب على القيم ويمس الثوابت بتطاولاته الرامية إلى تحسير دورها في مناحي الحياة.

المكتبة العربية اليوم تزخر بزخم مذهل من تلك الكتب التى تنبعث من أفق اللامرجعية وعلى ضوء اللاثابت وانطلاقاً من اللاقطعي وإذا لم يكن المتلقي مدججاً بأدوات المعرفة الشرعية فسيقع ضحية لذلك التدليس الذي يحجب عنه الصورة المنطقية ويغرقه في تفاصيل مكثفة لاتفضي إلا إلى تزييف الحقيقة وحجب مقتضيات معانقتها, وهذا يملي علينا ضرورة ترشيد المسيرة القرائية للنشء وضبط بوصلة اتجاهها. إن هذا ليس دعوة للحجر على العقل بقدر ما هو تصويب لاشتغالاته ونحن كما أننا نشعر بالامتعاض عندما نرى من يتهافتون على الكتب التي تتبنى خيار العنف والإرهاب وتدعو لمنطق المفاصلة مع ألوان المغاير, وكما نشعر بالاستياء عندما نرى من يتواصل مع تلك الكتب التي تشيع الخرافة وتمتهن إذاعة الأساطيركما أننا نضيق ذرعا بهذا وذاك فإننا ومن باب أولى سيتملكنا قلق بالغ عندما نلمس الاستهلاك يتنامى لذلك الكتاب المتخم بمفردات الانشقاق على أطرنا العقدية والمكتظ ببواعث قلقلة الأمن الفكري.

ولا غرو فقد تمعر وجه نبينا الكريم- صلى الله عليه وسلم- وأثيرت حفيظته عندما لاحظ صحيفة من صحف أهل الكتاب ومع من؟! مع عمربن الخطاب المبشر بالجنة فأنكر عليه ذلك مؤكداًَ له ضرورة التجافي عن ذلك اللون من المقروء. ثمة ازدواجية أشير إليها هنا تتمثل في ذلك التوجه الذي يرى أن توجيه القراءة وعقلنة تخَلّقها هو لون من الحجر على العقل وعرقلة لحراكه وفي الآن عينه فإن هذا الصنف الذي يحيل التهم هنا وهناك هو يناقض ذاته فعندما تكون القراءة متصلة بكتب علماء الأمة وخيارها الأوائل فهنا ينبري أولئك محذرين من التعاطي مع ماتضخه تلك الأوطروحات, إذاً هناك حجر! ولكن على الضفة الأخرى, هناك بُعد وصائي يتموضع في هذا السياق, النظرة الإقصائية تتبختر هنا في أوج تبرجها! إن التنويع في القراءة والنهل النهم من مصادر التغذية المعرفية مطلب حيوي لاشك وخصوصاً في ظل ذلك السيل الثقافي المتدفق ولكن ذلك أمر مشروط بالتوفر على جهاز الفلترة المعرفي الذي يتسنى للمتلقي بموجبه تشريح المادة المقروءة وسبر أغوار روحها العامة.

إن الممارسة القرائية المفتقرة للشرط التأصيلي كثيراً مايقع ذووها لقمة سهلة يفترسها أرباب الطرح المشوه الذي يرتكز على المرواغة التكتيكية إبان تمرير مشروعه التقويضي. إن محدودية التحصيل الشرعي وتهافت الوعي ببنود التشريع وعدم الإدراك بمنحييه: التصوري والتصديقي يفقد القارئ الرصانة النقدية حتى ولوكان على درجة عالية من الثقافة - فهي ثقافة خداج - بل حتى ولوكان يلتهم الكتب التهاما فإن شخصيته الثقافية تبدو مختلة مهزوزة فاقدة للنضج وقابلة للتطويع المغرض. ثمة طرد وعكس - استلزام من جانب الوجود ومن جانب العدم - فعمق التأصيل ينضج الحس النقدي، بينما وهنه يقود نحو خفوت ذلك الحس. والمشهد يعج بأولئك المثقفين الذين يمتلكون ناصية المعرفة ولكن عندما تتمعن في الحمولة التي لايكلّون من التنظيرالدعائي لها فإنك تقف وعن كثب على إفرازات الانفصال عن الفقه العقدي وتلمس آثارالجهل بأدبيات التشريع حيث بات من المعتاد أن ترى من يتحدث في أشياء ويمارس أستاذية مطلقة على القراء وهو لايفقه في مايتناوله شيئاً فمثلاً تجد من يسهب في الحديث عن النصوص ومع ذلك يخفق في إسقاطها على سياقاتها وتجده لايُفرق بين المطلق والمقيد ولابين المتشابه المحتمل والمحكم الجلي وقد يكثرمن القياس ويتخبط لعدم وعيه بحيثيات إجراء القياس التمثيلي؛ لقد أضحى من المألوف أن ترى من يهرف بمالايعرف، فهو تارة يلزم ما لايلزم وتارة يهمش اللزوم بين اللازم والملزوم وتارة يخلط بين الملازمة الجزئية والملازمة الكلية أوبين الملازمة القطعية والضعيفة!؛ هناك من يخلط بين ألوان الدلالة ولايعي الحدّ المجلي لماهية المنطوق والمفهوم ولايعرف القول الشارح الدال على كُنه الدليل المستوحى من عبارة النص أومن إشارته أواقتضائه!, هناك من يخلط بين دلالة اللفظ والدلالة باللفظ، وهناك من يتعبث بالنصوص غير مميز بين دلالة المطابقة ولا دلالة التضمن ولادلالة الالتزام بل هناك من يصف أحكاما بأنهالم ترد في التشريع فيخيل له أن ثمة نقصاً في الشريعة ويجهل أن تلك الأحكام إذا لم يُنص عليها فإن حكمها يستمد من الأدلة العامة كالقياس والمصالح المرسلة. هذا الجهل هوالذي يجعل مثل ذلك المنهمك في بطون الكتب - طبعا إلاكتب العلم الشرعي!- يتشرب الأفكار المفخخة ويتشبع بمؤدياتها على نحو يعجز جراءه عن إثارة الأسئلة حولها فضلا عن مشاغبتها لماذا؟ لأنه انكفأ على تلك البؤرة القرائية الضيقة التي كبلت وعيه نتيجة لطول مؤالفتها وعدم التنفس إلا في مستنقعها. إنه هناكائن استنساخي من الطراز المثالي ينقاد بميكانيكية فائقة فهو يبدو مسالما يلوذ بالصمت الذي لايبدده إلاعندما يرفع صوته مؤمّنا على أفكارملهميه!, بينما هو يستحيل إلى كائن آخرعندما يقرأ في كتب الشريعة فهو يستحضر قبلياته ومسبقاته التي اكتسحت لبه وشوشت إدراكه للحقائق، ولذا فعندما يتناهى إلى ذهنه فكرة تعضدها المستندات الموضوعية فإنه هنا يستحضرذلك المقروء الذي تشبع قبلاً بمرئياته يستصحبه باعتباره هو الأصل وينبعث على ضوئه لإثارة الغبار ورفع درجة التشكيك في ثوابت الشرع, القضية عكسية هنا فبينما المفترض أن ينطلق من العلم الشرعي بوصفه الأصل إلى محاكمة ماخلاه انعكست القضية وأضحى المحاكِم محاكَما!.



Abdalla_2015@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد