يتجول الشاعر عبده بدوي بنا بين قبائل السودان وطقوسها وفنونها التي عاشها وأحبها، وكأنه قد نشأ منذ طفولته في ظلالها ويُعبِّر عنه عشقه لكل ما هو أسمر أو أسود، فمن ظلام الليل ينبثق الفجر، ويشرق النور الذي ينشر الحب والسلام:
أحبيبتي السمراء يا تهويمة الفجر الندي
قالوا (لقد أضحى الهوى والود غير مورَّد)
فهتفت شعري: هذي أكفكم السمراء تحضنها يدي
وهواي في عينيك إما رائح.. أو مغتدي
ألقاه في مسرح الصباح وفي ظلال الموعد
وحب السودان في قلب عبده بدوي وشعره يتألق في كل موضوع يطرقه ويحتشد الشاعر بكل عاطفته الجياشة في التعبير عن حبه لكل ما يتصل بهذا الوطن الغالي فهو يتحدث عن الثوب السوداني وعن الأنثى السودانية وتميزها عن شجر الأبنوس وعن شجر النيم المشهور في السودان وعن الأساطير والرقصات الشعبية وأنواعها وطبولها كما نجد حبه للسودان ورغبة العودة إليه كلما فارقته تدعوه للحديث عن مقولة: (إن من شرب من ماء النيل عاد إليه) ويتصور أنه تحول إلى شجرة جذورها في مصر وأغصانها وأوراقها في السودان على ضفاف النيل فيقول:
ونهر عاش يشربني وأشربه بإطراق
وينمو بين أجفاني كما ينمو بأعماقي
ويبذرني بإشفاق وأبذره بإشفاق
إلى أن قمت كالأشجار أغمر كل آفاقي
جذوري في ثرى مصر، وفي السودان أوراقي
وقد أثمرت أشواقاً فمن يقطف أشواقي؟
فلا عجب أن تكون السودان عشقاً في حياته ووفاء يرمي له طوق النجاة كلما ضاقت به السبل، ولا عجب أن نجد عاطفته الشعرية تحتشد عندما يأتي الحديث عن السودان وعن الشوق للخرطوم، ولا عجب أيضاً أن يبلغ في المجاز مداه، حين يشبه السودان بالجنة التي يشتاق لها؛ إذ لا يوجد شوق أعظم من شوق المؤمن للجنة، ويشبه الخرطوم بالكعبة؛ حيث لا يوجد حب وتعلق في قلب المسلم الحق أكثر من حبه وتعلقه بالكعبة والخوف من فراقها بطواف الوداع, ولهذا يفتتح قصيدة (الخرطوم والذكريات) التي تستحق أن نتوقف عندها فهي أجمل وأروع قصائده السودانية:
عدت للجنة التي أتمنى
والنقاء الذي يهز الكونا
كلما طفت سبعة لقدوم
وتشبثت بالمقام الأسنى
قلت: يا رب إن خوفاً عظيماً
من (طواف الوداع) يقبل وهنا
وأشهد أن هذه الصورة ليست غريبة ولا متكلفة فقد كان الشاعر - رحمه الله - من أكثر الناس تعلقاً بالبيت العتيق وحباً للطواف به وكان يؤدي العمرة أكثر من مرة في العام.
ثم يصف هبوطه بمطار الخرطوم في لوحة رائعة فيها النجوم والصفاء واللحن الجميل والشعور بالأمن الذي كان يفتقده في القاهرة ثم يختم هذه اللوحة بهذه الإضاءة الروحية في لحظة الوصول:
قلت هذا فقيل: عد لوجود
أنت قد عشته صفاءً وأمنا
وإذا بي والشمس فوق جبيني
في سماء الخرطوم أعزف لحنا
ويجد عبده بدوي نفسه على العكس من حافظ إبراهيم الذي عاش فترة من حياته في الجنوب ويقصد به السودان وظل يحن بالعودة إلى الشمال ويقصد به مصر فيقول:
حن قوم إلى الشمال وقالوا
ارفعوا هذه الكمائم عنا
وأنا قلت: ربِّ مُنَّ بعودٍ
ورجوعٍ إلى الجنوب.. فمن
ويتذكر سبع سنوات خضر من حياته أمضاها في السودان مع الناس والتلاميذ والفكر والنور والشعر:
عشت سبعاً من السنين فكانت
لوحة أبدعت خطوطاً ولونا
كنت بالثوب والعمامة والزهو
وبالحرف ليس يعرف حنا
كل ليل قد مر سال حريراً
كل بيت سكنته كان عدنا
إن لي هاهنا حديقة ورد
زرعتها يداي غصناً فغصنا
ويتذكر ما لا ينساه من خصائص البيئة السودانية وتراثها:
ودعانا (الدعاش) للشعر و(الشبال) و(الدوبيت) الذي رق وزنا
وسرت نسمة تصاحب خطوي
كلما سرت ساءلتني: لأين؟!
ودعتنا مساجد فسجدنا
ودعتنا مناهل فنهلنا
ويعبّر عبده بدوي عن معاناته في الحب والشوق.. حب مصر في الشمال وأشواقه المتصلة للسودان في الجنوب فهو لا يطيق فراق السودان كلما حل به:
كلما عدت للشمال معنى
شدني للجنوب قلب معنى!!
وإذا شدني جناح لمصر
حن قلبي إلى الجنوب وأنى
أي عشق أحالني أغنيات
وقصيداً مخضوضراً يتثنى
وترتبط السودان في شعره ووجدانه باللون الأخضر وهو لون كثير الحضور في شعر عبده بدوي وهو لون الجنة ودلالة الازدهار ورمز الإسلام فنراه يصف السنوات السبع الخضر التي عاشها في السودان ويربطها بهذا اللون.
كل من مسني يصير اخضراراً
ويرى فكرة تضيء ومغنى
عشت كالنيل روحة وغدواً
صرت رعداً في السماء ومزناً
أترامى أو أنثني أو أراني
(كعباد الرحمن يمشون هونا)
وبعد فهذا ليس نهاية المطاف عن عشق السودان في شعر وأدب عبده بدوي فقد استغرق هذا العشق مساحة واسعة من عمره وشعره، ولو جمعنا ما نظمه عبده بدوي من شعر في السودان وإفريقيا لوجدناه ديواناً كبيراً يستحق الجمع والدراسة من الدارسين الأوفياء في السودان ناهيك عن ما كتبه من أبحاث ودراسات عن الشعر في السودان جعلت منه رائداً في هذا الجانب.
ولقد قصرت هذه الدراسة على السودان وحده في شعر عبده بدوي لأفتح المجال لغيري للتوسع فيها وليس لي من هدف إلا التذكير لهذا الرائد المظلوم من حقوق تستوجب الوفاء لو تم تنبيه أبناء السودان الأوفياء لها.
أما إفريقيا في شعر وأدب عبده بدوي فهي تحتاج إلى وقفة أخرى مستقلة إن شاء الله.