بدأ السيد (لي كوان يو) باني دولة سنغافورة الحديثة خطابه أمام منتدى التنافسية العالمي الذي عقد في الرياض بقوله: (أريدكم أن تبنوا صناعات تسمح لمواطنيكم بالاستثمار فيها، ويجب أن ترسلوا أبناءكم للعمل في الدول المتقدمة لكي يعودوا لتأسيس أعمال صناعية ومصارف إسلامية جديدة في بلدكم، فالمهم أن تتعلموا كيفية استثمار احتياطي نفطكم وكيفية إدارة مواردكم لتحقيق أكبر فائدة ممكنة).
وفي حديثه العذب دعا إلى تطوير التعليم والتركيز على التخصصات العلمية التي بإمكانها نقل الدول إلى مراتب متقدمة من التطور. واستطرد بقوله: (كنتم بدواً رحّلاً وفلاحين، ولكن الآن أمامكم خيارات عظيمة لتطوير أسلوب حياتكم، والفرصة مواتية لتتساءلوا عن كيفية تطوير اقتصادكم، لتعيشوا حياة ذات مستويات مرتفعة للغاية بعد حقبة البترول).
ولمن لا يعرف (لي كوان يو) فهو صاحب معجزة دولة سنغافورة الحديثة، الذي قاد مسيرتها نحو الاستقلال وترأس حكومتها أكثر من ثلاثة عقود. وهو من يُعرف بصانع المعجزة السنغافورية التنموية، وارتقائها من بلد نام في العالم الثالث إلى مصاف الأمم المتحضرة في العالم الأول.
كان في مقتبل حياته يحلم ببناء وطن للناس وليس له، وحين أتت الفرصة بنى المصانع وأمر الناس بالعمل لا بالتذمر. وأغلق السجون وفتح المدارس. وطبّق حكم القانون دون سجون! فأقام في آسيا نموذجاً مناقضاً لكتاب ماو تسي تونج الشيوعي وثورته الثقافية؛ لذا كان (لي كوان) باهرا، بل هو خليط سحري من آداب القيم والحضارة، كما هو حريص على الكرامة البشرية. ففي ظل قيادته، تحولت سنغافورة إلى أنشط ميناء بحري في العالم، وثالث أكبر موقع لتكرير البترول، ومركز عالمي رئيس للصناعات التحويلية والخدمات، ليرتفع بذلك المتوسط السنوي لدخل الفرد فيها من أقل من ألف دولار أمريكي إلى قرابة ثلاثين ألف دولار خلال ثلاثة عقود فقط، كأعلى دخل في العالم.
واعتمدت سنغافورة في تحقيق معجزتها على بناء الإنسان والاهتمام بالقيم الحضارية والتاريخ والتقاليد، ومن ثم الانطلاق إلى الأخذ بمقومات بناء دولة حديثة لا تعرف حدوداً للتطور، وقد نجحت التجربة بالفعل، حيث تضم سنغافورة أكثر من 700 مؤسسة أجنبية و60 مصرفاً تجارياً، إضافة إلى بورصة مزدهرة لتبادل العملات الصعبة بحدود 60 مليار دولار أمريكي سنويا، كما تعد سنغافورة الآن أكثر بلدان العالم نظافة، بل إن شوارعها أكثر نظافة من مونت كارلو، ومبانيها أحدث من ناطحات سحاب نيويورك، ورغم ذلك فهي نموذج في الحفاظ على البيئة ومثال في المحافظة على مستوى المعيشة، وأكثر البلدان أمناً واطمئناناً واستقرارا.
وقد اعتمدت سنغافورة في بدايتها بيروقراطية صغيرة الحجم قوامها 50 ألف موظف ذوي كفاءة عالية وعلى درجة كبيرة من المهنية والتعليم والثقافة. وكان الحرص على تعيين الموظفين من خلال التنافس المفتوح للجميع، بحيث يحصل موظفو القطاع العام على رواتب تنافسية مثل القطاع الخاص. إلى جانب الشفافية وانخفاض نسبة الفساد الإداري والمالي. علما أن سنغافورة تقع في المرتبة الأولى لمؤشر الشفافية الذي تصدره المنظمة الدولية للشفافية. ختم هذا العبقري حديثه الشجي عن تجربة بلاده بقوله: (لقد أدركنا الحكمة الصينية التي تقول: سنة واحدة ضرورية لكي تنمو بذرة قمح، وعشرٌ ضرورية لكي تنمو شجرة، ومائة ضرورية لكي ينمو إنسان. وعملنا على إنتاج مجتمع آمن ومستقر، وركزنا على الثقافة والفنون، فتمكنَّا من تكوين أشخاص قادرين على اختيار مواقعهم ووظائفهم، ومؤمنين بأن الحياة تستحق العناء من أجلهم وأجل أبنائهم).
في منتدى التنافسية العالمي في الرياض بينما كان (لي كوان يو) يروي قصة نهضة سنغافورة، كان هناك أكثر من ألف رجل وامرأة، يتطلعون إليه بإعجاب ولهفة شديدين، بينما كنت أتحسر على بلادي التي يتسخط شبابها من الدراسة والعمل، ويتذمر آباؤهم من عناء المواصلات، وتتبرم أمهاتهم من الأعمال المنزلية، رغم أن سائقيهم وخدمهم يتجاوز عددهم خمسة ملايين أو يزيدون!
www.rogaia.net
rogaia143@hotmail.com