سُئلت ذات مرة: هل العظماء يخرجون إلى الوجود كطفرة أو حالة استثنائية أم أنهم نتاج بذلهم للمجهود والعرق والعمل من أجل أوطانهم ومن أجل البشرية؟..
وهل هؤلاء العظماء تنحصر طموحاتهم وأحلامهم حول
شخصهم فقط، أم أنها تمتد لتشمل المجتمع المحيط بهم، أو المجتمع الإنساني ككل؟.
وللإجابة عن تلك الأسئلة وغيرها نجد أنه إذا نظرنا إلى التاريخ لوجدنا أن هناك في الأمم طاقات مدفونة، وإبداعات وقوى مكبوتة، وآمالاً مرجوة، وأهدافاً تنتظر مَنْ يشخِّصها ويستثيرها على البزوغ والتدفُّق. والعظيم أياً كان هو مَنْ يعرف أمته حق المعرفة، يعرف طاقتها وآمالها وطموحاتها، ومَوَاطن قوتها وضعفها؛ فيستحثها ويثيرها ويبعث في أمته ما تحتاجه من الدفء والحيوية؛ حتى تتدفق على يديه تلك الطاقات، ومنها يصنع أمته ويصنع بأمته ما شاء.
وأعتقد - كما يعتقد الكثيرون منكم - أن العظماء السابقين والحاليين عرفوا قوة أممهم وشعوبهم وإمكانياتها وطموحاتها؛ فاستغلوها خير استغلال، ولم يبخلوا على أمتهم بشيء؛ فعرفتهم أممهم وشعوبهم مثلما عرفوها؛ فلم تبخل عليهم بشيء، ورمت لهم بكل ما لديها، وانقادت لهم حيثما شاؤوا، وصنعوا ما صنعوا، وحتى بعد رحيلهم خُلِّدوا في ذاكرتها إلى الأبد، بينما غيرهم لم يعرفوا شعوبهم، ولا شعوبهم عرفتهم، على الرغم من أنهم حكموا لسنوات طويلة، ولكنهم كانوا كطيف عابر لم يره أحد، وإن رآه لم يُعِره انتباهاً، ورُموا في كواليس التاريخ، وأول من نسيهم أممهم؛ فعندما تتأتى للفرد الشجاعة والقوة والتصميم والطموح والمعرفة قد يكون صانع أمة ويغير مجرى التاريخ.
وإن العظيم هو مَنْ كانت له رسالة نبيلة من أجل المجتمع، وهو مَنْ يسجله التاريخ في صفحة العظماء؛ لأنه استطاع أن يدخل قلوب الناس بإخلاصه وإنسانيته وتواضعه وأعماله الخالدة.
وتذكروا أن الشخصية العظيمة في العادة لا تبحث عن النجاح الخارجي المتمثل في وسام أو جائزة أو منصب رفيع؛ بل تبحث عن النجاح الداخلي وإرضاء النفس، ذلك النجاح الذي يكون مع الله، ومع المجتمع، تجده يجدّ ويتعب كي يرى نتاج نجاحه وصدقه يترجم إلى أعمال خالدة تنعكس بالإيجاب على حياة المحيطين به في أمته، بل وغير المحيطين به في العالم.
وعظماء التاريخ منهم أنبياء ورسل وحكماء بجانب علماء وأدباء ومفكرين ومبدعين وفلاسفة ومخترعين ومكتشفين وفطاحل الشعراء.. ولا ننسى القادة والسياسيين الذين غيروا مجرى التاريخ.
وبالبحث والتدقيق في سجلات وصفحات تاريخ الجزيرة العربية سنجده مليئاً بكثير من الصفحات المضيئة عن الأبطال والعظماء على مَرّ الأزمنة، وفي جميع المجالات. فمثلاً لا عجب في أن يستحق رسول الهدى محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - لقب أعظم العظماء والخالدين؛ لأن أعماله وأفكاره الموحاة إليه من السماء أسهمت بشكل مباشر، ليس في تقدُّم قومه الذين كانوا يعيشون في ظلمات الجهل والتخلف والضياع فحسب، بل في تغييره حياة وفكر العديد من الأمم التي جاءت من بعده؛ فكانت رسالته هي البوابة التي أخرجت العالم من الظلمات إلى النور، ثم استكمل أصحابه وأتباعه بعد ذلك المسيرة، مستلهمين قوتهم من القرآن المنزَّل عليه من رب السماء والأرض، ومن سنته الشريفة التي ترجمت حياته وأفعاله.
وتذكروا ما قاله مايكل هارت في كتابه مائة رجل من التاريخ: (إن اختياري محمداً ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ قد يدهش القراء، لكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي. فهناك رسل وأنبياء وحكماء بدؤوا رسالات عظيمة لكنهم ماتوا دون إتمامها، كالمسيح في المسيحية، أو شاركهم فيها غيرهم، أو سبقهم إليهم سواهم، كموسى في اليهودية، ولكن محمداً هو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية، وتحددت أحكامها، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته. ولأنه أقام جانب الدين دولة جديدة فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضاً وحّد القبائل في شعب، والشعوب في أمة، ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها، ووضعها في موضع الانطلاق إلى العالم. أيضاً في حياته فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية، وأتمها). أما ما قاله تولستوي إنه (سوف تسود شريعة القرآن العالم لتوافقها وانسجامها مع العقل والحكمة).
كما قيل أيضاً إنه ليس انتشار الدعوة الإسلامية هو ما يستحق الانبهار وإنما استمراريتها وثباتها على مر العصور؛ فما زال الانطباع الرائع الذي حفره محمد في مكة والمدينة له نفس الروعة والقوة في نفوس الهنود والأفارقة والأتراك وغيرهم من حديثي العهد بالقرآن، على الرغم من مرور أربعة عشر قرناً من الزمان.
ولا عجب أن وظيفة الإسلام ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة.
ومثال آخر في التاريخ الحديث هو الملك عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله - الذي يعتبر من الشخصيات البارزة في التاريخ الإسلامي كله، ومن أعظم ملوك المسلمين في العصر الحديث؛ فقد أقام ملكاً، وأسس دولة، ووحَّد شعباً في شبه الجزيرة العربية، ولم يكن الأمر هيناً، أو يسيراً أمامه، وفي مواجهة قوى دولية كبرى، ومذاهب وتيارات شتى، واستطاع أن يحقق إنجازاته الكبيرة من أجل دينه وأمته وشعبه، بعيداً عن كل المؤثرات التي تبعده عن غاياته. وقد حكمت الشريعة أعماله وتصرفاته.
ولا ننسى منظومة الإنجازات الخالدة لأبنائه البررة من بعده، التي لا يتسع المجال لذكرها، وآخرها إنجازات خادم الحرمين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، التي تميزت بالشمولية والتكامل؛ لتشكّل ملحمة عظيمة لبناء وطن وقيادة أمة خطَّط لها وقادها بمهارة واقتدار، وحققت المملكة منجزات ضخمة وتحولات كبرى في مختلف الجوانب التعليمية والاقتصادية والزراعية والصناعية والثقافية والاجتماعية والعمرانية، محلياً وعالمياً، والاهتمام بالإسلام والمسلمين وحوار الأديان وتوسعة الحرمين الشريفين وبدء الحرب على الفساد.
ومن عظماء العلماء المخترعين توماس ألفا أديسون الذي عاش بين 1847-1931م، وهو مخترع أمريكي ظهرت عبقريته في الاختراع، وقد سجل باسمه أكثر من ألف اختراع. وتذكروا بعض أقوال أديسون التي تتميز بالتواضع والبساطة: (أنا لم أفعل أي شيء صدفة، ولم أخترع أياً من اختراعاتي بالصدفة؛ بل بالعمل الشاق)، و(أنا أبدأ من حيث انتهى آخر رجل)، و(إذا فعلنا كل الأشياء التي نحن قادرون عليها لأذهلنا أنفسنا)، و(كثير من إخفاقات الحياة هي لأناس لم يدركوا كم كانوا قريبين من بلوغ النجاح)، و(ليس معنى أن شيئاً ما لم يعمل كما تريد منه أنه بلا فائدة) و(العبقرية 1 % إلهاماً، وعرق 99 %). ومن أقواله أيضاً (أنا فخور أني لم أخترع أسلحة)، و(أنا لم أعمل يوماً في حياتي بل كان الأمر كله مرحاً)، و(أنا لم أفشل بل وجدت 10 آلاف طريقة لا تعمل) و(تحلى بالإيمان وانطلق) و(دائماً هناك طريقة أفضل) و(ليس هناك بديل للعمل الجاد) و(نحن لا نعرف واحداً بالمليون من أي شيء) و(الآمال العظيمة تصنع الأشخاص العظماء) و(لكي تخترع أنت بحاجة إلى مخيلة جيدة وكومة خردة) و(اكتشفت 100 طريقة لا تؤدي لاختراع البطارية وحاولت 9999 مرة لصناعة المصباح الكهربائي). وقيل إن أديسون قبل اختراعه للمصباح الكهربائي قد حاول أكثر من 10000 محاولة لهذا الاختراع العظيم ولم يسمها محاولات فاشلة بل أسماها تجارب لم تنجح. ولنا هنا أن نتعلم من هذا المخترع الصبر والثقة بالنفس والتفاؤل. ويقول أيضاً: تعلمتُ 10000 طريقة خطأ لصنع المصباح. نعم، إنه بحق رجل عظيم، ذلك الذي خدم البشرية باختراعاته.
يا إخوان، لا تظنوا أن التاريخ سيخلدكم في أي موقع أو منصب تحتلونه، لكنه سيخلدكم للأعمال العظيمة التي ستقومون بها لتطوير ورقي بلادكم أو لأي عمل يسعد البشرية. ولذلك على كل فرد أن يفكِّر كيف يريد أن يذكره التاريخ.
(*)عضو لجنة الصحة والبيئة بمجلس الشورى