Al Jazirah NewsPaper Tuesday  09/02/2010 G Issue 13648
الثلاثاء 25 صفر 1431   العدد  13648
 
عشت في أشرف مهنة وقضيت في أنبل مهمة..!
د. حسن بن فهد الهويمل

 

قضى الرائد المظلي إبراهيم بن محمد الطاسان نحبه على جبل الدخان، على حدودنا الجنوبية، فيما واصل زملاؤه مهمة التطهير بعزيمة لا تلين، وشجاعة لا تُقهر.............................

وهل هناك أشرف من عين تبيت تحرس في سبيل الله؟

....وهل هناك أنبل من مهمة الدفاع عن الثغور وحفظها من كل معتد أثيم، والموت في سبيل الدفاع عن حرمة الأهل والوطن؟

هكذا عشتَ، وهكذا متَّ أيها الرائد الشهيد والصِّهر العزيز.. لقد دافعت عن حق مشروع، وذُدتَ عن وطن مَرُوْع، وأبليتَ بلاء حسناً في معركة الشرف، وتقحمت على الموت مقبلاً غير مدبر، لم تعتد، ولم تبدأ القتال، ولم تتخطَّ حدود وطنك، ولم تختر الحرب، وفي وسعك السلام.

قاتلتَ دون مالك وأهلك، وواجهتَ طائفة باغية تسللت إلى أرضك وحاولتْ أن تخل بأمن بلادكَ أرض المقدسات، والناس كلهم أجمعون يحتسبونك عند الله شهيداً، ولن يخيب الله ظنهم، يترحمون عليك، ويدعون لك، ويفتخرون بك وبزملائك، ويغبطونك على استشهادك. فكَّرت بالجهاد فجاهدت، وفضلت الشهادة فاستشهدت، والموت يقين، وكل نفس ذائقة الموت، والفخر لمن وُهِب الموت في الوغى. عشتَ في أشرف مهنة، وقضيتَ نحبك في أشرف مهمة، ومضيت ببدنك تاركاً الذكر الجميل. خلَّفتَ والدَيْك فهما يدعوان لك دبر كل صلاة، وتركتَ أرملة وأطفالاً فهم يذكرونك ويذكِّرون بك، لم تنقطع بموتك وقد تركت فيصلاً ومحمداً والعنود الذين ما زالوا ببراءة الطفولة يرقبون عودتك آناء الليل وأطراف النهار، وسيكونون بفضل احتسابك ودعاء أحبابك خلفاً صالحاً.

وصلاح الآباء يدرك الأبناء، ويحفظ لهم شأنهم كله، وقصة اليتيمين اللذين حفظ الله لهما كنزهما بإقامة الجدار كان أبوهما صالحاً، فلك ولزملائك الشهداء صادق الدعاء وخالص المحبة.

حرستَ المسجد الحرام في موسم الحج، ثم انطلقتَ مع رفاقك لتحرسوا حدود الوطن، موقعان لا ينازعان شرفاً، ومهمتان لا تطاولان أهمية:-

«علو في الحياة وفي الممات».. لقد كسب الأموات الشهادة، وكسب الأحياء النصر، وباء العدو يسبُّه الدهر.

أيها الرائد الذي لا يكذب أهله، نم قرير العين في مدينتك التي فخر أهلها باستشهادك؛ فتدفقوا كالطوفان وراء نعشك؛ فالوطن في أيد أمينة، وأهلك في عز مكين، وأطفالك في سعادة غامرة؛ لقد ورثوا المجد، ولو لَمْ تدع لهم إلا الشهادة في سبيل الله لكانوا أغنى الأغنياء وأشرف الشرفاء.

لقد أشرقتْ بهم داري، وانداحت بهم مشاعري، وشرفت بهم أسرتي، كنت أسعد بهم في حياتك كل عام مرة أو مرتين، وأنا اليوم أسعد بهم كل ساعة، أراهم وكأنهم جواذب خير ونوازع مجد وخيمة أمان، يسرحون ويمرحون كسحابات ممطرة أو ربيع ضاحك، وأصهاري كأولادي وأسباطي كأحفادي، لقد كانت آخر مكالماتك معي أن نكون مع زوجتك وأبنائك وقد تركتهم وحدهم في (قاعدة تبوك) وانطلقت تجيب داعي الله، وكدت تجهش بالبكاء حين طلبتُ منك ألا تشغلك إلا مهمتك الشريفة؛ فكل الأمة معهم.

وإذ يكون الموت حقاً ونافذاً إلى مَنْ هم بروج مشيَّدة فإن مجيئه على هذه الشاكلة من النوادر، ولو خُيِّر كلُّ حي بسبب موته لما اختار إلا الشهادة في سبيل الله؛ فالحمد لله الذي اختار لك ما شرفت به أسرتك وطاب فيه ذكرك، وما سمعتُ معزياً إلا يهنئ باستشهادك ويغبطك على موتك.

لقد حزنَّا، ومن قبلنا حزن الرسول - صلى الله عليه وسلم - على مَنْ استُشهد من أصحابه، وفَقْدُكَ مصيبة لا يتسع لها إلا الإيمان والصبر والاحتساب. ومما ضاعف الحزن أنك بقيت فوق ثرى الوطن أكثر من شهرين وزملاؤك يقتحمون الموت للوصول إلى جثمانك الطاهر، وكأنك لم تقبل بطن الأرض حتى تطمئن على نصر مَنْ بقي من زملائك الأشاوس الذين تلقوا الراية وأبلوا بلاء حسناً، وطهَّروا أرض الوطن من دنس المتسللين قبل أن يوارى جسدك الطاهر. لقد قضى الله أن تسقط على تراب وطنك مضرجاً بدمك، وتسقط معك قلوبنا التي لم يبقَ لها بعدك إلا الشوق إلى لقائك على الأرائك، والله المسؤول أن نظفر بنضرة النعيم.

والمصابُ يكون أمله بالله عظيماً؛ فالله إذا أخذ ما أعطى ورضي المصاب بالقضاء ثم طلب منه الأجر والخلف أُعطي ما هو خير، وأم سلمة رضي الله عنها راوية حديث: «واخلف لي خيراً منه» قالت حين مات أبو سلمة: «ومَنْ خير من أبي سلمة صاحب رسول الله»، لقد ترددت في أن تقول هذا الدعاء، وهي راوية الحديث. قالت: «ثم عزم الله لي فقلتها: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها». قالت فتزوجت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بلا شك خير من أبي سلمة. والخلف قد لا يكون في الزوج وحده، بل يكون في أمور كثيرة كأن يُنسأ للمصاب في أجله، ويُوسَّع له في رزقه، ويُجعل في العقب الصلاح والتسديد، وقد يسلِّي الله المصاب وينسيه الفقيد ويمكنه من استقبال حياة سوية ملؤها السعادة والهناء، وإذا لم يكن من الموت بد: «فمن العار أن تموت جباناً».

والإنسان الصابر المحتسب يشكر بثه وحزنه إلى الله كما فعل يعقوب عند فَقْد ولديه، والبكاء والحزن دأب المصاب، ولكنهما يحملانه على الاسترجاع تمثلاً للتوجيه الرباني: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)، وكل مَنْ قالها مؤمناً بثوابها ظفر بثلاث هبات، أدناها تعدل الدنيا وما فيها (صلوات لله ورحمته وهدايته)، وهذا وعد رباني (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ).

استُشهد الرائد البطل، كما استُشهد زملاؤه من قبل ومن بعد، وهو يقدم رفاقه لتطهير المواقع الواحد تلو الآخر، وكان كلما حرَّر مع زملائه موقعاً هاتَفَ زوجته ليطمئنها بالظفر والسلامة، وعندما تهيأ زملاؤه لتطهير الموقع الأخير طلب منها أن تدعو له، وشاءت إرادة الله أن يلقى الشهادة وهو يمارس العملية الشريفة في الهزيع الأخير من الليل، وظلَّت طوال الليل تهاتفه، ولما لم يرد عليها قطعت باستشهاده، وكان أن ظفر بها، فيما واصل زملاؤه مهماتهم الشريفة لدحر العدو.

رحمك الله يا إبراهيم «وإن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون».

(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ).




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد