Al Jazirah NewsPaper Monday  08/02/2010 G Issue 13647
الأثنين 24 صفر 1431   العدد  13647
 

صدى زيارة للكنانة
د. عبد الله الصالح العثيمين

 

عندما كنت طالباً في المرحلة المتوسطة بالمعهد العلمي في عنيزة كان من بين الأساتذة الأفاضل، الذين سعدت بطلب العلم عليهم علماء من مصر. وكنت، في ذلك الوقت، شغوفاً بقراءة ما يكتب عن أوضاع أمتنا العربية،

تماماً كما كان كثير من أبناء الجيل الذي أنتمي إليه.

وتزامن ذلك مع أمرين، أولهما بدايات كتابتي للشعر، أو ما قد يسمى شعراً. وثانيهما تدفق الأمل لدى الجيل الصاعد في تحرر أوطان أمتنا؛ وبخاصة فلسطين، من المحتلين لها. وكان مما عمق ذلك الأمل انطلاقة الثورة الجزائرية المجيدة عام 1954م، وما تلا تلك الانطلاقة في العام الذي تلاه من تألق الرئيس المصري في مؤتمر باندونج، الذي كان بداية لما سمي دول عدم الانحياز، ووثوب الفدائيين من غزة، التي كانت حينذاك تحت الإدارة المصرية، في عملياتهم ضد الاحتلال الصهيوني.

وفي عام 1956م ارتكب العدوان الثلاثي التآمري الصهيوني - البريطاني - الفرنسي، على مصر، وصمدت مصر، حكومة وشعباً أمام المعتدين، وتجلى موقف بقية العرب المشرف الداعم لمصر الصامدة قيادات وشعوباً وكان لكل ذلك إيحاءاته فكتبت عدداً من القصائد بينها قصيدة بعنوان (صمود) مطلعها:

طعم المنون من المذلة أعذب

والموت من عيش المهانة أطيب

وختامها:

عزماتنا لن تستكين وشعبنا

جيش على خوض الحروب مدرب

إن رمتمُ أن تستبيحوا أرضنا

فالأسد تثأر للعرين وتغضب

والمارد الجبار حطم قيده

سيهد أركان العدى ويخرب

وفي عام 1959م بلغ تدفق الأمل مداه تدفقاً، ذلك أن خروج العراق من حلف بغداد، وقيام الوحدة بين مصر وسورية في العام السابق له كان لهما في نفوس الكثيرين من أمتنا أثر وأي أثر، وكان أن كتبت قصيدة بمناسبة مرور عام على قيام تلك الوحدة مطلعها:

أشرقي يا صفحة الخلد ابتساما

قد رضيناك محلاً ومقاما

جيلنا الصاعد في أعماقه

ظمأ يهفو للقياك غراما

ومنها:

أمتي زفت إلى هام العلا

وحدة رفت على القطرين عاما

يخفق النصر على ساحاتها

باسم الثغر طروباً مستهاما

نفحات النيل هزت بردى

فمضى يلقي على النيل الخزامى

وغدا الشعبان في قطريهما

دولة تأبى مدى العمر انقساما

كم كانت العواطف جياشة، وكم كانت الآمال متدفقة! بعد نصف قرن من كتابة تلك القصيدة أصبح القطر الواحد من أقطار أمتنا على وشك الانقسام في زمن تتحد فيه دول وأمم مختلفة اللغات والانتماءات العرقية، أهناك مبرر للوم من يلوم الذين يعبرون عن ألمهم القاتل لما أصبحت عليه أوضاع أمتنا؟

وكانت مصر شعباً وأرضاً وحضارة، في القلب. زرع حبها فيه تلك النخبة من الأساتذة في المعهد العلمي، ونما ذلك الحب وأورق بما تجلت فيه من مواقف عظيمة، دعماً لحركات التحرير من نير الاستعمار، وصموداً أمام أعداء أمتنا، وتزعماً لوحدة عربية كانت في أيام مضت حلماً من الأحلام. لذلك لم يكن غريباً أن كنت تواقاً لتكون دراستي الجامعية في ربوعها. وكان ترتبي في شهادة المعهد السعودي الثانوية من مكة المكرمة الأول بين المنتسبين والثاني بين المتنظمين والمنتسبين. لذلك كنت شبه مطمئن إلى أني سأبعث إلى القاهرة للدراسة الجامعية هناك لكن أملي خاب، فكتبت قصيدة عنوانها: (لا تظلموه): مطلعها:

لا تظلموه فما جنى المسكين ما زرعت يداه

ومنها، بعد التعبير عما كان يدور في ذهني من أمل:

ورسمت للنيل العظيم بخاطري أحلى الصور

فغداً سأسمعه النشيد يذوب في نغم الوتر

غير أني كنت مجرد متفائل:

وإخال أن المرء يبعث بالتقدم والنجاح

وإذا بغير الواسطات يضيع مفعول السلاح

ولأن فرصة الابتعاث إلى مصر قد ضاعت، أو ضيعت، انتهزت فرصة الإجازة الصيفية، وسافرت مع ثلاثة من الأصدقاء إلى القاهرة اكتفاء، اضطراراً «بالعوض ولا القطيعة»، وفي عاصمة الإقليم الجنوبي لدولة الوحدة... الجمهورية العربية المتحدة... رحمها الله، استأجرنا شقة أجرتها ثلاثون جنيها في الشهر. وقضينا هناك أياماً سعيدة بينها يوم جميل في القناطر الخيرية، ومع أنه كان يوماً يفترض أن يكون للمتعة والمتعة فحسب فإن تبادل الآراء حول ما كان يدور في ربوع الأمة عن قضاياها فرض وجوده. وما زال الجدل فيه حول ما كان قد طرأ على الساحة من بوادر خلاف بين البعثيين ومنافسيهم من القوميين العرب.

ومرت سنوات الدراسة الجامعية في الرياض لأبتعث بعدها إلى بريطانيا حيث أكملت دراستي العليا، وحصلت على الدكتوراه من جامعة ادنبرا عام 1972م. وبعد عودتي من هناك بعام ذهبت إلى القاهرة لحضور مؤتمر عن التاريخ. وما كانت مشاعري حينذاك مشابهة لمشاعري حين ذهبت إليها شاباً على أبواب الجامعة متفائلاً بمستقبل أمته، ولا كانت القاهرة عاصمة الإقليم الجنوبي، ولا زعامتها زعامة تمسّك بأن (ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة) وبعيداً نوعاً ما عن قضايا الفكر كان من أسوأ ما حدث لي في زيارتي تلك للقاهرة مشاركاً في مؤتمر للتاريخ فقدي لقلمي الباركر، الذي أدمنت محبته وعشقه، كنت قد اشتريته من الكويت عندما ذهبت مع وفد من طلبة جامعة الملك سعود إلى هناك وأنا في السنة الأولى من المرحلة الجامعية. وكتبت بذلك القلم طوال دراستي في تلك المرحلة، ولم يتخل عن أناملي حينما غيرت خط سيره إلى اللغة الإنجليزية، فكان رفيقي المخلص كل سنوات إقامتي الدراسية في بريطانيا، وعندما تمتد يدي الآن إلى مسودة رسالتي للدكتوراه، التي كتبتها به تتجدد مشاعري تجاه ذلك الرفيق المخلص، وأقول: ليت من جعلني أفقده طلب مني عشرة أضعاف ثمنه، وأبقاه لي.

ومر نصف قرن من الزمن (بالوفا والتمام) على زيارتي الأولى للقاهرة وإذا بي أزورها - بعد زيارات متعددة- مرة أخرى أرجو ألا تكون الأخيرة في الأسبوع الماضي. وكان الباعث الأكبر لهذه الزيارة أن أخي الكريم وصديقي العزيز أحمد الحمدان رئيس مجموعة الرشد، رئيس جمعية الناشرين السعوديين، قام بمبادرة مشكورة تمثلت في تكريم لأخي الشيخ محمد، رحمه الله، على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب، ودعاني - كما دعا أبناء الشيخ وعدداً من الأفاضل الأعزاء - لحضور ذلك التكريم. وما كانت الإقامة في القاهرة في ظلال لطفه وكرمه الوارفة إلا سعيدة كل السعادة، ولا كانت أريحية أخي الجميع أبي عبدالعزيز محمد العقيل، المستشار الثقافي السعودي هناك، إلا أمراً معهوداً عرفه ويعرفه كل من أسعده الحظ بلقائه والتعامل معه. وكما كانت الإقامة ممتعة سعيدة كان حفل تكريم الشيخ محمد، الذي كان في طليعة من حضروه سماحة شيخ الأزهر، جميلاً كل الجمال. جزى الله من بادر ودعا وأجزل الكرم، ومن ساعد ويسر كل ما له علاقة بذلك التكريم وما له صلة بالمكان الذي عمل لكتب الشيخ محمد في الجناح السعودي من المعرض.

ولولا أن حيز المقالة لا يسمح بأكثر مما سبق ذكره لما وقف القلم هنا.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد