بعيداً عما يقال عن تراجع «الشعر» عربياً ومحلياً.. حتى مع الضجة التي أثارتها مظاهرة «شاعر المليون» التلفزيونية الخليجية، وتقدم «الرواية» في المقابل على المستويين.. حتى انتزع لها النقاد مسمى «ديوان العرب» من دوحة الشعر
نفسها.. ربما اعترافاً به أو استفزازاً له ولشداته، فإنه تبقى ل «الشعر» دولته الضاربة في أعماق التاريخ، ومكانته الأصيلة، وحضوره الأكيد في وجدان الأمة وضميرها، فإذا حزن العربي تذكر «الخنساء» و«المعري»، وإذا صبا إلى الحكمة تذكر «المتنبي»، وإذا استعصى عليه مراده تذكر «امرؤ القيس»، وإذا أحب تذكر «ابن أبي ربيعة»، وإذا نأت به الديار تذكر «ابن زيدون»، وإذا أقبلت عليه ساعات الوغى تذكر «ابن شداد»، وإذا كبُر إحساسه ب «الفقد» والهوان.. تذكر «الرندي»، فإذا تركنا شعر وشعراء الأيام الأولى.. وما أكثرهم وأعظمهم، وانتقلنا إلى العصر الحديث: فمن ينسى من الأدباء والشعراء والمثقفين عموماً دواوين.. «الناس في بلادي» لعبدالصبور، و«وحدي مع الأيام» لطوقان، و«لعيني أم بلقيس» للبردوني، و«لافتات» لمطر، و«آخر الليل» لدرويش، و«لا» للقباني، و«لا تكذبي» للشناوي، و«أحزان أفريقيا» للفيتوري، و«نهر الرماد» للحاوي.
كما أن ل «الرواية» -على الجانب الآخر- سهولها ووديانها وخلجانها وشوارعها وأزقتها ومنعطفاتها التي حافظت عليها، واستقطبت بها رؤى المتابعين لها، وأحلامهم، وقلقهم.. قبل وبعد تقدمها فبلوغها حد الانفجار «الكمي» الذي أشار إليه معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة وزير الثقافة والإعلام في كلمته الافتتاحية ل «مؤتمر الأدباء السعوديين» الثالث في الرياض. ف «الشعر» و«الرواية».. هما جناحا طائر الأدب «العنقاوي» الذي لا يموت أبداً.
على المستوى الشخصي.. كنت - وما أزال - عاشقاً ل «الشعر»، قارئاً له.. حافظاً - ما استطعت - لبعض جميله، مستأنساً به في وحدتي وخلواتي.. ومتابعاً بحرص ولهفة ل «الرواية» باعتبارها «تصوير» لجزء من «حياة» في مكان وزمن ما، أو «تسجيل» لحقبة من حقبات تعالى عليها التاريخ الرسمي، أو «استشراف» لمراحل غامضة قادمة من مراحل الحياة.. ك «أم» جوركي، و«جريمة وعقاب» ديستوفسكي، و«حرب وسلام» تولستوي، و«مدينتي» ديكنز.. قديماً، و«عودة الروح» للحكيم، و«شيء في صدري» لعبدالقدوس و«ثلاثية» محفوظ، و«غثيان» سارتر.. أو «سأم» مورافيا، إلى «شرق متوسط» المنيف.. حديثاً، إلى «موسم هجرة» الطيب صالح، و«شقة حرية» القصيبي، وثلاثية «الأزقة المهجورة» للحمد، و«طنين» سيف الإسلام، و»عتمات» بن جلون.. وكلها تقع في أطر «التصوير» أو «التسجيل» أو «الاستشراف».. التي تستهويني وتلح عليَّ بمتابعتها، وكلها سبقت ما أسماه الدكتور الخوجة ب «الانفجار» الروائي.. وهو يقصد في غالب الأمر الجانب المحلي.. على الجانب العربي منه.
في سياق هذا الاهتمام والحرص من قبلي.. صادف أن أهداني صديق عائد من زيارة لمعرض الكتاب بالقاهرة العام الماضي إحدى رواياته المعروضة.. هي رواية: «لا أحد ينام في الإسكندرية».. فقد قدر بحكم معرفته بي وبدراستي في جامعة الإسكندرية وسنواتي الست التي أمضيتها فيها أنها قد تهمني.. أو أنه قرأها فوجد أن موضوعها يدخل في دائرة اهتماماتي.. أو الأمران معاً. فكانت هديته.
كان كاتب الرواية.. هو الأستاذ إبراهيم عبدالمجيد، وهو كاتب لم أشرف بمعرفة قلمه روائياً من قبل.. كما أن الرواية تقع في حوالي خمسمائة صفحة من الحجم المتوسط، وهو ما يعني أن قراءتها ستأخذ أياماً.. قد تمتد إلى أسبوع أو أكثر، وهو أمر يتقاطع مع ما انتهيت إليه في النأي بوقتي عن المجازفة باستهلاكه في تجارب قراءة ما لا يستحق.. لكن «عنوان» الرواية وسؤالي: (لماذا.. لا أحد ينام في الإسكندرية)..؟ حسما الأمر لصالح قراءتها.. لأتعرف من خلال صفحاتها وكثافة وتنوع أحداثها.. على رواية تفصيلية رائعة لكل ما عاشته وعانته «الإسكندرية» في ليالي الحرب العالمية الثانية.. وظلامها وغاراتها.. منذ أوئل الأربعينات الميلادية الماضية وإلى هزيمة «رومل».. أمام «مونتجومري» في معركة العلمين الفاصلة (عام 1942م). أو المحور أمام الحلفاء.. من خلال عائلتين: إحداهما مسيحية.. والأخرى مسلمة، ومن خلال رجليها «دميان» و»مجد الدين».. اللذين أصبحا شريكا «حياة».. وأصدقاء عمر في ملحمة من الإنسانية والمحبة الغامرة بينهما ذكرتني بتلك الصورة التي عرفتها وعشتها في الإسكندرية، وإلى الحد الذي لم أكن أميز معه بين هذا وذاك. فمن يقول بأن أسماء زكريا وصفوت ووصفي هي أسماء مسيحية، إلى أن.. أخذ الموت «دميان» في آخر غارات المعركة التي دمرت عربتين من قطار عودتهما من «العلمين» إلى الإسكندرية، وبقي «مجد الدين» يعالج قدميه المجبرتين.. ويجفف دموعه بين الحين والآخر على «دميان» وهو يقرأ سورة الرحمن، ويدعو له بالرحمة والغفران..!
لأكتشف أيضاً.. بأن هذه «الرواية» هي رابع أعمال الأستاذ إبراهيم عبدالمجيد، وأنها صدرت عام 1996م.. وأنني أقرأ في طبعتها السادسة الصادرة عام 2008م. لقد كانت رواية تستحق ذلك الأسبوع أو أكثر.. لقراءتها. فقد كانت رواية تسجيلية.. امتلأت إلى جانب خطها الدرامي الذي حافظ عليه كاتبها في متابعة بطليها.. بأخبار مصر كلها في تلك السنوات: من السياسية.. إلى الأدبية.. إلى الفنية، إلى أخبار المحاكم والبلديات وأقسام الشرطة.. فكل تلك الأخبار كانت تستكمل مع منظومة أحداث الرواية.. «معمارية» المكان والزمان، وقد أشار الكاتب في ختام الرواية.. إلى أنه استعان في استقصاء تلك الأخبار وجمعها وتوظيفها بصحف مصر التي صدرت في سنوات الحرب.
وكان طريفاً.. أن تتناهى إلى مسامعي وعلمي أخبار عن رواية جديدة هي رواية: «عزازيل».. لمحقق وكاتب معروف بقلمه وعلمه وجهوده البحثية في مكتبة الإسكندرية هو الأستاذ يوسف زيدان، فحرصت مع أول توقف لي في القاهرة.. على اقتنائها، وكان قد ذهب بي اعتقاد سابق.. بأن هناك «تصحيف» في الاسم، وأنه ربما كان اسمها الحقيقي.. هو «عزرائيل» ملك الموت الذي يقبض أرواح البشر عندما تنتهي آجالها وتحين أقدارها.. وليس «عزازيل»، هذه الكلمة المجهولة بالنسبة لي والتي لا أعرف لها معنى.. إلا أن يكون اسماً مركباً مقصوداً ل «بطل» الرواية..؟
ولكنني عندما اقتنيتها.. وأصبحت بين يدي كان يتأكد لي بأن لا خطأ ولا «تصحيف» في عنوان الرواية.. وأنه» «عزازيل» وليس (عزرائيل) كما اعتقدت أو توهمت.. وأنه عليَّ أن أقرأ الرواية بصفحاتها الأربعمائة (تقريباً) حتى أعرف من هو «عزازيل» هذا؟! تماماً.. وكما قرأت صفحات رواية الأستاذ إبراهيم عبدالمجيد.. حتى أعرف لماذا كان (لا أحد ينام.. في الإسكندرية)؟! وقد مدني بمزيد من أسباب التحفيز على قراءتها إلى جانب كشف عنوانها الغامض بالنسبة لي.. تلك الشهادة التي أدلى بها الأستاذ الدكتور جابر عصفور الأديب والمثقف المصري العلم.. عن الرواية، والمنشور على غلافها الأخير (لو قرأنا هذه الرواية قراءة حقيقية، لأدركنا سمو أهدافها ونبل غاياتها الأخلاقية والروحية.. التي هي تأكيد لقيم التسامح، وتقبل الآخر، واحترام حق الاختلاف، ورفض مبدأ العنف).. إلى جانب اكتشافي مع تقليبي لصفحات الرواية بأن النسخة التي بين يدي هي من نسخ الطبعة الثالثة عشرة!!
لكن «الرواية» فاجأتني منذ صفحاتها الأولى ب «مقدمة للمترجم».. غير موقعة لا باسم المؤلف (يوسف زيدان)، ولا بأي اسم آخر.. ولكنها مؤرخة في 4 إبريل 2004م، مع الإشارة لمكان ترجمتها (الإسكندرية)، وهو ما أوحى إليَّ بأنها رواية مترجمة عن «السريانية» وهي تروي قصة حياة كاتبها الراهب والطبيب والأديب «هيبا» التي كتبها عام 450م، أو أن مؤلفها هو مترجمها، أو أن مؤلفها أعاد صياغتها بعد ترجمتها.
وبصرف النظر عن الحيرة فيمن ألف أو ترجم، فإن الأرجح عندي.. بأن الأستاذ زيدان هو من عكف على ترجمة نصها الجميل والشفاف من «السريانية» إلى «العربية» بهذه اللغة الراقية العذبة، وقد استغرقه ذلك العمل سبع سنوات متصلة.. حتى ينجزه، فكان هذا العمل الأدبي الرائع.. الذي يروي قصة حياة راهب مصري قدم من أطراف مدينة أسوان.. إلى القدس.. ثم إلى «حلب»، وهو يروي فيها تفاصيل رحلته العلمية لدراسة الطب واللاهوت في الإسكندرية، ثم رحلته إلى بيت المقدس ف «حلب» فيما بعد حيث تعبد وأحب وأصلح وأخطأ وطبب الناس، ثم كتب قصة حياته بإلحاح من عزازيل (الشبح.. أو الحقيقة) الذي يظهر ويختفي في فترات متباعدة من صفحات الرواية.. والذي يتأكد للقارئ بأنه «الشيطان عندما يلتقيه الراهب وهو بين الصحة والمرض.. وبين اليقظة والنوم.. ليقول له: «لكنك يا عزازيل سبب الشر في العالم؟
- يا هيبا كن عاقلاً، أنا مبرر الشرور.. هي التي تسببني.
- ألم تزرع الفرقة بين الأساقفة. اعترف؟
- أنا أقترف ولا أعترف، فهذا ما يريدونه مني.
- وأنت ألا تريد شيئاً..؟
- أنا تراني حاضراً حيثما أردت أو أرادوا.. فأنا حاضر دوماً لرفع الضرر، ودفع الأصر. وتبرئة كل مدان. أنا الإرادة، والمريد، والمراد. أنا خادم العباد»..!!
ومع الدعاء بأن يقينا الله شر هذا ال «عزازيل»، فإن الرواية بأحداثها وأحزانها، ورقة وشفافية بطلها، وصراعه بين روحانيته وآدميته.. تشكل نقلة إلى عالم آخر قديم.. يزيد عمره على ألف وخمسمائة وخمسين عاماً.. تستحق معها قراءتها.
فإذا عدت بعد هذه التداعيات الشعرية والروائية الطويلة.. إلى هذا «الانفجار الروائي» المحلي، الذي أحسن الأستاذ طامي السميري المحرر الثقافي بصحيفة الرياض الغراء.. عندما قدم فور الانتهاء من مؤتمر الأدباء (10-1-1431هـ).. تقريراً إخبارياً شاملاً عنه، مزوداً بإحصائية تقول.. إن عدد الروايات السعودية التي صدرت خلال عام 2009م قاربت الستين رواية، وأنه جرى استفتاء (شارك فيه ما يقارب الـ 72 اسماً، يمثلون شرائح وحالات قرائية متباينة) كما ذكر الأستاذ السميري، وأن عشراً من تلك الروايات حصلت على الأفضلية.. أولها: رواية «شارع العطايف» للزميل والكاتب الصحفي الجذاب الأستاذ عبدالله البخيت الذي كنت أتابعه عندما كان يكتب في الجزيرة، وعاشرها: رواية «شغف شمالي» لكاتبها الشاب الواعد الأستاذ فارس الهمزاني.. الذي تعرفت عليه في ثالث زياراتي لعروس الشمال (حائل)، ثم أخذت أتابع أعماله القصصية الأولى.. إلى أن أهداني روايته الجديدة «شغف شمالي» التي عكفت على قراءتها بعد عودتي من مؤتمر الأدباء.. ثم هاتفته مهنئاً بعدها، وهو ما سأفعله مع الأستاذ البخيت عندما أفرغ من قراءة فصلي الرواية الأخيرين.
ربما فاجأ رقم ال (60) رواية هذا الذي أورده الأستاذ السميري في تقريره الثقافي.. جموع القراء، كما فاجأني!! فإذا كنت قد جاريت الدكتور الخوجة معجباً ب «توصيفه» لما يجري على الساحة الثقافية.. بأنه «انفجار روائي»، فلم يدر في حسباني.. بأننا نتحدث عن انفجار روائي.. قوامه ستون رواية، وكان أقصى ما تبادر إلى ذهني.. أننا نتحدث عن عشر.. إلى خمس عشرة.. إلى عشرين رواية، إذ لا أظن أن دولة عربية فضلاً عن الخليجية منها.. تنتج هذا الكم الهائل من الروايات في عام واحد، كما أنني لا أعتقد بأن كل هؤلاء الكتاب الذين كتبوها من غير المعروفين واللامعين في ساحة الرواية.. كان همهم الأول والأوحد هو الظهور أو اللحاق بركب الرواية وصولاً إلى «ديوانها» الذي حل محل ديوان الشعر.. كما يقول النقاد. إن هذا الكم الروائي.. يقدم معنى واحداً، هو أن في نفوس كتابها أحلاماً وآمالاً وعذابات.. ترددوا في كتابتها زمناً أو أزماناً، وأنها جاءت لحظة التعبير عنها.. ليقرأها الوطن كله.. وليسمعها أهلهم وأهله. فهم لا يقيمون في كوكب المريخ(!!)، وليستمر هذا «الانفجار».