تحقيق - فاضل الفاضل
لا يُوجد برزخ يفصلنا عن «الإشعاعات» وخطرها.. فهي تعيش بيننا وتحتل مكاناً شاسعاً من بيئتنا.. ويعود الفضل في ذلك إلى الإنسان نفسه الذي أوجدها بصناعاته ومصانعه التي تحيطنا في كل الاتجاهات.. حيث إنها سببت أمراضاً عديدة.. من بين أهمها السرطان خصوصاً أن هذا الأخير عادة ما يكون نتيجة تراكم الإشعاعات التي يتعرض لها الإنسان طوال فترة قربه للعناصر المشعة.. أو تناوله للمأكولات والمشروبات المتعرضة للإشعاعات.
(الجزيرة) حاولت معرفة حجم هذه المشكلة محلياً خصوصاً أن المملكة تشارك اليوم باقي دول العالم الاحتفال باليوم العالمي للتوعية بداء السرطان وتحسين حياة المصابين تحت شعار: (الآن يمكنك الوقاية من السرطان).. فكان هذا التحقيق:
إشعاعات.. إشاعات!
في البداية استطلعنا آراء المواطنين حول ما يحيطهم من إشعاعات خطرة.. حيث تبين أن الكثير منهم يجهل ذلك ويجهل مصادرها ومكوناتها.. كما أن الغالبية لا يعرفون المواقع المشعة وانبعاثاتها.. لكن ذكر بعضهم أنه سمع عن وجود إشعاعات في المستشفيات فقط، الطريف أن البعض ذهب تفكيره إلى «الشائعات» ظناً منه أننا نقصد الشائعات التي بدأت تنافس «الإشعاعات» في خطرها على المجتمع.
هناك أماكن في المملكة تزداد النسبة الإشعاعية فيها لكن بنسب متفاوتة وهيئة المساحة الجيولوجية السعودية لديها دراسات حول هذا الشأن.. ففي مسح إشعاعي لمنطقة غير مأهولة في منطقة المدينة المنورة قرب مهد الذهب ازدادت إشعاعية الأرض بمقدار يزيد عن 20 ضعفاً.. وهذا ما يؤكده الدكتور محمد الجار الله أستاذ الفيزياء بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن الذي أكد لـ(الجزيرة) أنه من الحقائق المعلومة أن الإشعاعية الأرضية تزداد بشكل رئيسي نتيجة وجود خام اليورانيوم والثوريوم في التربة ومدى قربها من سطح الأرض.. ويتوقع الجار الله أن تكون هناك مناطق أخرى ذات إشعاعية أكثر مما هو موجود قرب مهد الذهب كما هو الحال في الكثير من بلدان العالم.
وعن أنواع الإشعاعات يقول: الإشعاع الرئيسي الذي تطلقه المصادر الطبيعية المشعة هو أشعة جاما وبيتا وألفا، ونظراً لكون الأخيرين مداهما قصير فإنهما لا يشكلان خطراً يُذكر إلا إذا دخلا الجوف عن طريق المعدة أو الرئة أو الجروح، والشدة الإشعاعية تعتمد على تركيز النظائر المشعة في التربة.
الأشعة السينية أكبر خطر:
وعن أضرار الأشعة السينية صحياً فيرى الدكتور الجار الله أنه وبشكل عام.. فإن التعرض المستمر للإشعاع قد يسبب مشاكل على المدى البعيد.. فكلما كان التعرض مرتفعاً زاد احتمال حدوث الأمراض.. ونحن نعاني في المملكة من الإسراف في استخدام الأشعة السينية والنظائر المشعة في التشخيص الطبي من قبل بعض الأطباء، وهذا أمر شهدته بنفسي في أكثر من مرة، كما أن المعايرة الدورية لأجهزة الأشعة شبه معدومة في معظم مستشفياتنا الحكومية والخاصة.. مما يعرض المراجعين لجرع إشعاعية مرتفعة دون داعٍ، وهذا الأمر مبني على دراسة علمية موثقة.
بيوتنا مصدر لإشعاعات قاتلة!
تؤكد الدراسات أنه في الأراضي التي تحتوي على تراكيز مرتفعة نسبياً من اليورانيوم يمكن أن تكون مصدراً لغاز مشع ينتج من التفكك الإشعاعي لليورانيوم، وهو غاز الرادون المشع.. ويرى الدكتور الجار الله أنه إذا لم تكن أرضيات المساكن المقامة في هذه المناطق محكمة يمكن أن يتخلل هذا الغاز من باطن الأرض إلى داخل المسكن نتيجة اختلاف الضغط.. وفي دراساتنا لهذا الغاز في مساكن مدن المملكة وجدنا أن معدل التركيز لا يتجاوز ربع الحدود الدولية لهذا الغاز وهو 200 بيكريل - م3 ووجدت مساكن قليلة جداً في بعض المدن تجاوز تركيز الرادون فيها 500 بيكريل - م3، وهذا الغاز من مسببات سرطان الرئة عافانا لله وإياكم.. ويمكن معالجة الأمر بالتهوية المستمرة للمسكن أو سحب الغاز من أسفل المسكن إلى الخارج.
مياه مشعة
وإذا كانت المياه الجوفية والسطحية عرضة للتلوث الإشعاعي فإن المياه التي نشربها ونستخدم جزءاً منها في بناء أنسجتنا وأجسامنا قد تعرضنا لجرعات متزايدة من الإشعاعات المتراكمة في الأنسجة التي تم بناؤها بالمياه الملوثة بالإشعاع.. ويؤكد الدكتور محمد الجار الله أنه وفي زيارة له لمنطقة حائل قام بزيارة هجرة أنبوان القريبة من منطقة المدينة المنورة وأخبره أهلها أن الجهات المسئولة قد منعت استخدام مياه البئر الرئيس الذي كان يُستخدم في توفير المياه وذلك لارتفاع الإشعاعية فيه.. والسبب في ذلك مفهوم لأهل الاختصاص، فالماء المحتوي على المواد المشعة مثل الراديوم يمكن أن تتركز في العظام وتمكث فترة طويلة معرضة إياه للإشعاع مباشرة من داخل الجسم.. وهذا يمكن أن يؤدي لحدوث أمراض سرطانية.. وعن منع الاقتراب من هذه المناطق قال الجار الله: لا أعرف منطقة في البلاد.. ولا في خارجه منع فيها الاقتراب نتيجة ارتفاع الإشعاعية الطبيعية فيها نظراً لأن تأثير الإشعاع الذري طويل الأجل ولا يظهر إلا إذا تم التعرض له لفترات مزمنة.. والجهة المسئولة عن الحماية الإشعاعية في البلاد هي مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.
دعم البحوث العلمية والتطبيق:
الدكتور عبد الله الشعلان أستاذ الهندسة الكهربائية بجامعة الملك سعود فيذهب إلى ما ذهب إليه الدكتور الجار الله بخصوص ما أثير حول وجود تلوث إشعاعي للمياه الجوفية في بعض مناطق المملكة ويقول: علينا أن نولي هذا الموضوع الاهتمام الكافي والحرص الشديد لما قد يسببه من تبعات وآثار على صحة الإنسان.. وذلك بالدعم السخي للأبحاث العلمية التي تقود إلى تشخيص هذا التلوث ومعالجته وإزالة أسبابه ودرء مخاطره.
المياه تنقل الإشعاعات لأجسامنا!
ويقول الدكتور الشعلان إنه غالباً ما يحدث تلوث للمياه الجوفية بالعناصر المشعة عندما يكون الخزان المائي الحاوي لها مكوناً من مواد خشنة (رمل وحصى).. ومكشوفاً على السطح في مساحة واسعة.. وقد يحدث تلوث للمياه الجوفية عندما تمر خلال صخور مشققة ومتكهفة، كما قد تجد بعض العناصر المشعة الناتجة من عملية معالجة الخامات المعدنية طريقها إلى المياه الجوفية، وعلى وجه العموم يتواجد النشاط الإشعاعي الطبيعي في المياه الجوفية في العديد من مناطق العالم وبخاصة تلك التي تتميز بوجود نشاط حراري أرضي وفي المناطق البركانية وكذلك في المناطق التي تتكون من صخور تحتوي على معادن يدخل في تركيبها الكيميائي عناصر مشعة مثل الصخور النارية الجرانيتية.
يُعتبر اليورانيوم أكثر العناصر المشعة التي توجد في المياه الجوفية والذي يتواجد على هيئة أثر أو كمية ضئيلة في أنواع المياه الجوفية حيث تتراوح تركيزاته في العادة ما بين 5-10 أجزاء من البليون، أما بالنسبة للمياه الجوفية التي تمر خلال صخور غنية باليورانيوم فعادة ما تحتوي على تركيزات تفوق 200 جزء من البليون.
مياهنا الإقليمية ملوثة:
ويؤكد الدكتور الشعلان أن التحلل الإشعاعي يؤدي إلى انبعاث ثلاثة أنواع من الإشعاعات هي أشعة ألفا وأشعة بيتا وأشعة جاما.. وهناك مناطق في المملكة قد تكون ملوثة بالإشعاعات النووية وبالتحديد في شرق وشمال شرق المملكة وفي مياهها الإقليمية في الخليج العربي.. وإن كانت نسبة هذا التلوث تقل بكثير عن نسبها في كل من الكويت والعراق والأردن، إلا أن خطرها لا يزال قائماً على جميع النظم البيئية في تلك المناطق وما يعيش في كنفها وعلى أديمها من كائنات حية وبخاصة الإنسان.. ويضيف الشعلان: من العناصر المعروفة والنشطة بظاهرة الإشعاع هو عنصر اليورانيوم الذي يعتبر من أشد وأقوى العناصر المشعة، وهو معدني الملمس ذو لون فضي وكثافته عالية جداً حيث تبلغ أكثر من أربعة أضعاف كثافة الحديد، ومن مميزاته الفريدة قدرته على الاشتعال ذاتياً تحت درجة حرارة الجو الطبيعية، وله ستة نظائر هي يورانيوم 232 و233 و234 و235 و236 و238, والفترة الزمنية المعروفة ب (فترة نصف العمر) لعنصر اليورانيوم ونظائره تتراوح ما بين 70 عاماً إلى حوالي أربعة آلاف وخمسمائة مليون عام، ويقصد بفترة نصف العمر لليورانيوم على أنها الفترة التي يتحول فيها عنصر اليورانيوم من عنصر نشط إلى عنصر خامل (أي يتحول إلى عنصر الرصاص).
الصخور خطرة:
ولا يستبعد الدكتور الشعلان خطر بعض الصخور على صحة الإنسان ويقول: إن للصخور مخاطر تتمثل في انبعاث الغازات الخطرة منها وانتشارها مما يلوث البيئة مثل غاز الراديون وهو غاز خطر ينتج عن التحول الإشعاعي للراديوم واليورانيوم وهي عملية شائعة في مناطق الجرانيت القلوي وفي بعض الصخور الرسوبية الحاملة لليورانيوم، ومثل هذه الصخور تنتشر في إقليم الدرع العربي بمنطقة القصيم، والصخور الرسوبية في مدينة بريدة.. ويشير إلى أنه في عام 1993م صدر عن قسم المخاطر الجيولوجية بوزارة البترول والثروة المعدنية تقرير فني بعنوان: «التقويم العام للمخاطر الجيولوجية في المملكة العربية السعودية» تناول فيه ظاهرة إشعاع غاز الراديون من بعض الصخور، وقد تم اختيار منطقتي رنية في الدرع العربي، والقصيم في صخور الغطى للقيام بدراسات ميدانية، بيد أنه لم يعرف نتائج تلك الدراسات حتى الآن.. ويضيف: هذه الإشعاعات الصخرية طبيعية لكن هناك من يقلل من حجم آثارها ومخاطرها، ولا سيما أن بعض هذه الجزيئات المشعة منتشرة ليس فقط في منطقة القصيم.. بل موجودة في مناطق الجوف وتبوك وفي دول مجاورة كالكويت والعراق والأردن، كما توجد في المياه التي تغمر تلك الصخور.. وبالتالي لا تخلو من الملوثات الإشعاعية.
حجم الخطر..؟
وعن حجم الإشعاعات التي من الممكن أن يتعرض لها الإنسان طبيعياً، فيؤكد أستاذ الهندسة الكهربائية بجامعة الملك سعود أنه من الصعب تقييمها لعدة أسباب ذكر منها، أن هناك بعضاً من الآثار التي لا تظهر عادة إلا بعد مضي سنوات عديدة من تعرض الإنسان لتلك الإشعاعات، وعندما تبدأ أعراضها في الظهور يكون من الصعب ربطها بسبب الجرعات الإشعاعية فقط، فمثلاً ظهور السرطانات بأنواعها المختلفة لها أسباب متعددة بعضها معروف لدى الأطباء وبعضها الآخر غير معروف حتى يومنا هذا، وعلى كل حال فالإشعاع حولنا في كل مكان.. والأشعة الكونية تصل إلى الأرض في كل الأوقات، والعناصر المشعة موجودة وتتآكل بصورة مستمرة في التربة وتحت أقدامنا.