يذكر من أيام الإذاعة - سقاها الله - أن أعمال الصيانة تتطلب تبديل استوديوهات (البث المباشر)؛ فلكل من إذاعتي القرآن الكريم والبرنامج العام استوديوهان يعملان بالتناوب آنذاك، وذات مشكلة فنية تحول بث إذاعة البرنامج العام لاستوديو إذاعة القرآن الكريم، وكان لنا صديق من الفنيين، لعله - ولا نزكي على الله أحداً- من أنقى الناس تديناً وخلقاً، لم تفته المفارقة؛ فاستشهد بحكاية (بشت) الرجل الفاضل الذي بيع - بعد وفاته - لشخص يقف على نقيضه؛ فقال - مهاذراً ومخاطباً البشت: ستشهد من السيئات بقدر ما شهدت من الحسنات.
لم تكن الفوارق بين الإذاعتين بهذه الحدة، لكنه نظر إلى المسافة بين التلاوات والأحاديث المستبدل بها في المكان ذاته أغان وموسيقا فاستقام له الاستشهاد الذي لم يتحول إلى شهادة، لكنه تقمص دلالة التحولات التي تطرأ على الفرد والجماعة.
وحدث صديق عن احتفاظه برخصة استخدام «الراديو» لوالده - رحمه الله - قبل سبعين عاماً، وفيه اشتراطات ورسوم وصلاحية أحالتها إلى طرفة تروى بدهشة، ومثلها رخصة الدراجة العادية، ولم يكن من استنهما أقل فهماً لكنها متطلبات مرحلة تأذن بمقتضى الحال، وبخاصة ما يتصل بفقه النوازل، وتحديداً في قضايا الاقتصاد والطب ومستجدات التقنية التي لا تشهد إجماعاً، وتتبدل - بين وقت وآخر وبين مفت وسواه - حرمة وتحليلاً.
تبدل مكان الإرسال الإذاعي فاختلفت مدخلاته ومخرجاته، وهو إشارة لما يصنعه المتغير البيئي والشخصي والزمني، ويروى عن الإمام مالك - رحمه الله - أنه كان يتجاوز الإفتاء في الفرضيات، وحين سأله بعض أهل العراق عن مسائل تخيلية أحالهم إلى بلادهم معللاً أنه لن يجيب عما لا ينفع.
في الحياة الدنيا لا محطات وقوف إلا حينما تفنى وتبدأ الحياة الأخرى، والاعتدال الذي بتنا نشهده في آراء عدد من المفتين إرهاص بقطع الطريق على المتطرفين يميناً ويساراً؛ فلم نعد بحاجة إلى من يعزف على وتر «قيادة المرأة» ليسيء إلى عموم المتدينين، كما أننا لا نأبه بمن يخيفنا من «الحداثة» ليهاجم الحداثيين؛ فقد انتهت صلاحية كلا الفريقين، ولم يعودوا نجوماً على الأرض.
نحن في مرحلة حراك وتغير تفترض حضوراً مؤسسياً جديداً تتبدل فيه الوجوه والأسماء والرؤى والرسائل، وليس بإمكان المجتمع احتمال سلطة الشيخ والليبرالي على حد سواء؛ فكلاهما - مهما تلمعا - يمارسان الوصاية من حيث يزعمان أنهما يريدان الإصلاح.
الفكر الحر لا يؤدلج، والعقل المنطلق لا يقبل نقاط التفتيش، والمتسمون بالنخب هم من يسيء لقيم الانفتاح، وسلطة التقنية هي الأهم، والفجوة الحادة مع الأجيال الجديدة ستوجد نسيجاً مجتمعياً مختلفاً قادراً على الخروج من أنفاق العبث الثقافي والنفاق المجتمعي، وسوف تتبادل الاستوديوهات أدوارها كما تتبدل البشوت دون أحكام أو احتكام.
الخطوط تنحني.
Ibrturkia@gmail.com