دائماً ما أتساءل لماذا فشلنا في تجاوز مستويات العالم الثالث إدارياً، ولماذا نجح غيرنا في شرق آسيا في فرض التقدم والتحديث؟.. حاولت مراراً أن أبحث في الأوراق القديمة، وفي الأقوال المأثورة عن سبب ذلك التوقف الدائم عن تجاوز عنق الزجاجة في تاريخ التطور الحديث، ولم أجد إجابة شافية في تبرير الفشل في معظم التجارب العربية في العصر الحديث؛ فالغرب استطاع تحقيق التفوق في عصور الاستبداد وفي عصور الحرية، بينما لم تحقق الأنظمة الشمولية عند العرب إلا الفشل الذريع، ولم ينجح الإداري العربي في التخلص من نظرته الخاصة والأنانية أو الذاتية للأمور..
يكرر مثقفو العرب عبارتهم الشهيرة منذ عقود: هل يكرر العرب سيناريو القفزة الصناعية في اليابان؟ ثم يُعيد العرب نفس العبارة مرة أخرى بعد نجاح تجربة كوريا الصناعية بعد كثير من الاجتماعات والمؤتمرات وذلك من أجل البحث عن كوريا أخرى داخل محيط التخلف العربي، لكنها أصوات ما تلبث إلا أن يختفي صداها في مهب رياح العقم العربي..
لكنهم سرعان ما ينسون حديث الأمس، ويعيدون الحياة لتلك العبارة التاريخية مرة أخرى بعد نجاح الصين في تجاوز عقمها الإداري التاريخي وانطلاقها في ميدان سباق التقدم العالمي، بينما كان من الأجدى أن ينظر العرب إلى داخلهم قبل البدء في محاكاة تجارب الآخرين نظرياً، فالأزمة في سيناريو الفشل العربي ذاتية وتكمن في عجزهم الإداري عن دفع الحركة إلى الأمام بسبب رؤيتهم للأمور من خلال أغراضهم الذاتية المحدودة..
يحاول البعض إرجاع أسباب الفشل العربي إلى الفكر الديني، وهي عبارة لا تحمل في مضمونها الحقيقة الكاملة، وذلك لضعف تأثير الفكر الديني الجامد على مواطن الحضارة العربية الإسلامية في الهلال الخصيب والشام ومصر والمغرب العربي، فرفاعة الطهطاوي طالب يوماً ما بمحاكاة التقدم الاجتماعي والسياسي في فرنسا لتحقيق النمو الحضاري، ولم يجد في ذلك مخالفة لقواعد الشريعة الإسلامية، ومع ذلك لم يفعًل الإداري العربي الذي كان يرفع شعارات التقدم توصيات الشيخ إلى مجال التطبيق العملي..
إسقاط الحديث عن التقدم والتخلف في الديني أو اللاديني خاطئ، فالموقف السلبي من التقدم والتطوير ليس له علاقة بالإرث الديني أو بالجديد اللاديني، فقد تجد من أولئك الذين يحاولون البروز بمظاهر التقدمي قرارات وأطروحات تفرض الحركة إلى الخلف، بينما قد تُظهر سجلات ذلك المتدين ميله للتحديث في رؤيته للأشياء، وهو ما يعني وجوب التفريق بين المحافظة في الدين وبين المحافظة في العمل لدرجة تعطيل الحركة التطويرية.
لا يخلو أي قطاع أو مجال عمل من أولئك الذين يدفعون باتجاه الغد، وكذلك من الآخرين الذين يضطربون عندما تبدأ الحركة إلى الأمام، وتلك فطرة بشرية قد تدخل ضمن دائرة فلسفة التدافع أو دفع الناس بعضهم لبعض، لكنها قد تصبح عائقاً للتخلف إذا لم ينجح الاتجاه التقدمي في دفع بوصلة الحركة إلى الغد، وفي عالمنا الإداري غالباً ما تنجح الحركة إلى الخلف في تحديها الدائم ضد التحديث والتطوير..
بصريح العبارة يعاني المجتمع الإداري بمختلف مستوياته واتجاهاته وأيدولوجياته من فقر وقصور في مهارات الإدارة الحديثة، والتي من المفترض أن تعمل من أجل دفع حركة التطور والتخصص إلى درجات أعلى كلما كان ذلك ممكناً، فما استجد من تطوير في كثير من المؤسسات العامة يكاد لا يُرى، ولا يمكن مقارنته على سبيل المثال بالتطوير الأسمنتي على سبيل المثال، أو في الحركة التجديدية في تأثيث المكاتب..
تعاني الإدارة العربية من أزمة حقيقية في تقييم المشكلات التي يواجهها داخل إدارته، فالموضوعية غائبة عن الخلفية التي ينطلق منها في اتخاذ القرارات، وتعني الموضوعية القدرة على النظر للأمور بنزاهة وبتجرد من الأهواء الشخصية أو الذاتية أو من تقدير المصالح الشخصية والعلاقات الاجتماعية في مرحلة مخاض اتخاذ القرار..
بينما تفسر الذاتية أو شخصنة القرارات كثيراً من العوائق والفشل في حياة الإداري، فالخاص يكاد ينهي الموضوعية في محتوى القرارات، وذلك لأنها نابعة من خلفية متضخمة بالمصالح والمواقف الشخصية، والإشكالية أن كثيراً من الإداريين لا يدركون ذلك، بل يعتبرها بعضهم ذكاء إدارياً ومهارة مكتسبة من الواقع الاجتماعي والذي يقدم الذاتية على الموضوعية أو الخاص على العام.