شهد عصر الخلافة الراشدة كثيراً من الأحداث الدامية.. ويكفي أن نتذكر أن ثلاثة من الأربعة الراشدين قتلوا غدراً وغيلة.. ولكن يبقى من تلك الأحداث حدثان زلزلا كيان الدولة الإسلامية.. وما زالت آثارهما تلقي بظلالها على كثير من أحداث عصرنا.. أما الأول فهو حروب الردة إبان خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.. وأما الثاني فالفتنة الكبرى التي انتهت بمقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان.. وقد تناولت أقلام المؤرخين وأوراقهم الكثير من الجدل حول الفتنة الكبرى.. ولكنهم آثروا السكوت عن حروب الردة.. حتى أصبح التعتيم على تلك الفترة والسكوت عنها وإسكات الغير من علامات التدين.
وتبريراً لهذا التعتيم وتجنب الرواة والمؤرخين الخوض في أحداث الردة.. فقد قيل لأنها تمس سيرة بعض الصحابة الذين أقدموا على التنكيل بالمرتدين وأهليهم وقتلهم.. وهنا يثور السؤال: ألم يقع ما هو أفظع من ذلك في أحداث الفتنة الكبرى؟.. ألم يجر حديث بين الخليفة عثمان والصحابي ابن الصحابي محمد بن أبي بكر تتفطر له القلوب - على إحدى الروايات - قد تصدق الرواية وقد تكذب ولكنه يبقى في كل الأحوال موضوعاً مفتوحاً للحديث وإبداء الرأي على مر التاريخ تماماً كما حدث في رصد المؤرخين موقعتي: «الجمل» و»صفين» وهما من حروب الصحابة للصحابة.. فلماذا إذاً نستثني حروب الردة؟.
شهدت حروب الردة مقتل الكثير من الصحابة من حفظة القرآن.. فقد وجه الخليفة أبو بكر لحروب الردة سبعة جيوش تحت قيادة صحابة هم نجوم عالية في سماء الفروسية مثل خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وعمرو بن العاص والمهاجر بن أبي أمية وشرحبيل بن حسنة.. بينما وجه جيشاً واحداً للفتوحات الإسلامية وهو الجيش الذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته تحت إمرة الفتى ذي السبعة عشر عاماً أسامة بن زيد.. ورأى بعض الصحابة آنئذ أن يوجه جيش أسامة أيضاً لحرب المرتدين لكن الخليفة قال مقولته الشهيرة: «والله لا أحل لواء عقده رسول الله».. فإذا كانت حروب الردة بكل تلك الأهمية والخطورة فلماذا لم يفرد لها التاريخ والمؤرخون ولو بضع صفحات تحكي الواقع بدلاً من تركها نهباً لرواة المجالس وحكاواتية المقاهي والتي اختلطت رواياتهم بأساطير عنترة بن شداد ومغامرات أبي زيد الهلالي.
شيء آخر.. قال الله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ}.. فهل من المعقول أن أهل «نجد» الذين كان يرسل لهم وجهاء العرب أبناءهم لتقويم ألسنتهم.. والذين هم أول من قال الشعر العربي يمكن أن يقبلوا ما قيل على لسان مسيلمة وسجاح أو غيرهما من سجع ركيك في صياغته تافه في معناه رديء في تصويره خليع في مضمونه.. ليس ذلك وحسب، بل يتبعون قائله ويحاربون معه؟.. لا بد أن في الأمر أمر آخر.. فاعدلوا خير لكم حتى في شأن أكذب الناس.