مع سقوط سور برلين في عام 1989، والإطاحة بالشيوعية بلا عنف تقريباً في مختلف أنحاء أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية، فقد توقع المتفائلون عصراً ذهبياً جديداً عامراً بالأنظمة الديمقراطية المسالمة. وبدا الأمر في نظر البعض وكأن التاريخ قد بلغ نهايته. ولكن المتفائلين أثبتوا أنهم كانوا مضلَّلين، حيث أن قوى العالم، العظمى منها والصغرى، تستقي دروسها، التي كثيراً ما تكون متضاربة، من الماضي.
فبالنسبة للأمريكيين جاء عام 1989 مصدقاً لكل ما آمنوا به بالفعل. فقد خرجوا من الحرب الباردة ظافرين، أو هكذا تصوروا، عن طريق القوة الصارمة والإقناع. ولقد شاهدوا المتظاهرين في عواصم أوروبا الشرقية والجماهير الصينية الحاشدة في ميدان السلام السماوي تنشد للحرية، فاعتقدوا أن تلك الحشود كانت راغبة في أن تكون أمريكية. وكما أعلن جورج هـ. دبليو بوش (بوش الأب): «نحن نعرف كيف نضمن حياة أكثر عدلاً وازدهاراً للإنسان على الأرض: من خلال السوق الحرة، وحرية التعبير، والانتخابات الحرة، وممارسة الإرادة الحرة من دون تدخل من جانب الدولة».
ويبدو أن الأحداث اللاحقة أكدت على صحة الوصفة الأمريكية. فقد أكدت حرب الخليج على أهمية القوة العسكرية الأمريكية والمخاطر المترتبة على الاسترضاء. وفي عهد كلينتون كان الترويج للديمقراطية النشطة بمثابة الأداة الرئيسية للسياسة الخارجية الأمريكية، والتي ذهبت بها إدارة جورج دبليو بوش إلى مستويات غير مسبوقة من التطرف.
كان في الانتصار في الحرب الباردة الإجابة عن كل شيء. فقد قال كلينتون: «لقد ساعدت عزيمة أمريكا والمثل الأمريكية التي عبر عنها رونالد ريجان بوضوح في إسقاط الجدار». وكان الدرس واضحاً: «لقد حققنا أهدافنا بالدفاع عن قيمنا وقيادة قوى الحرية».
وتردد كلمات باراك أوباما صدى كلمات كلينتون. فعلى الرغم من مجاهرته على نحو متكرر برغبته في التغيير، فإن حديثه الأساسي عن السياسة الأمريكية يبدو ثابتاً إلى حد مذهل. ففي خطابه الشهير الذي ألقاه أثناء حملته الانتخابية في برلين قال أوباما: «لقد واجهت الأجيال السابقة الفاشية والشيوعية، ليس فقط بالصواريخ والدبابات، بل بالتحالفات القوية والقناعات الراسخة». ولهذا السبب تنفق أمريكا تحت زعامة أوباما على التسلح أكثر مما تنفقه بقية بلدان العالم مجتمعة، ولهذا السبب أيضا ظل الترويج للديمقراطية يشكل الأساس الذي لا جدال فيه للسياسة الخارجية الأمريكية، حيث يقتصر النقاش على التطبيق. ويعرض علينا التاريخ وصفة للنجاح، ما دام الأمريكيون ملتزمين بدرس عام 1989.
ولكن الناس في بقية أنحاء العالم تعلموا دروساً مختلفة. فقد رفض المنظرون الاستراتيجيون الأوروبيون على نطاق واسع التفسير الأمريكي الذي يعتبر أن القوة هي التي مكنت الغرب من الانتصار في الحرب الباردة، معربين عن اقتناعهم بأن النصر كان للتعاون لأن القوة على وجه التحديد كانت غائبة. فهم لم يسمعوا في النداءات المطالبة بالحرية من وراء الستار الحديدية رغبة الناس في التحول إلى أمريكيين، بل الرغبة في الانضمام إلى التجربة الأوروبية الناجحة في الأمن الجماعي والرخاء الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. وبالنسبة لزعماء أوروبا اليوم فإن الدرس الأساسي المستفاد من أحداث عام 1989 هو أن القوة أداة هدّامة؛ وأن ما يهم في نهاية المطاف هو الإجماع.
وكان درس 1989 واضحاً في نظر قادة روسيا: الثقة في الغرب كانت حماقة في أفضل تقدير، وتصرفاً بالغ الخطورة في أسوأ تقدير. ويبدو أن رؤية جورباتشوف للاحتضان الأوروبي لروسيا تجاهلت قروناً من التاريخ الروسي؛ فالغرب لم يكن راغباً في المشاركة الروسية. فالأفضل أن يعتمد الروس على قوتهم، وأن يعملوا على تنمية مواردهم الخاصة، وأن يحموا حدودهم بأنفسهم. لقد وضع الكرملين ثقته في الغرب في عام 1989. والآن يرفض قادة روسيا اللاحقون أن يستسلموا لنفس الخدعة مرة أخرى.
ولقد احتضن قادة الصين التركة الأعظم إلغازاً والأكثر إثارة للحيرة لأحداث 1989. فقد ارتدوا مع تفكك الكتلة السوفييتية. ففي مارس/آذار 1989 انتهى مسؤولو الحزب إلى اتخاذ القرار التالي: «يتعين علينا أن نبذل كل جهد ممكن لمنع التغييرات في شرق أوروبا من التأثير على التنمية الداخلية في الصين». وفي غضون أشهر سحقوا المتظاهرين الديمقراطيين بكل عنف.
لقد استقت الصين من أحداث 1989 درساً مفاده أن استقرار الدولة يأتي في المقام الأول. ولكن قادة الصين أدركوا أيضا أنهم تجاهلوا المطالب الشعبية على نحو بالغ الخطورة. وعلى هذا فقد عقدت الحكومة اتفاقاً ضمنياً مع المواطنين: لن نتسامح مع المعارضة السياسية، ولكن في المقابل سوف تضمن لكم الدولة النمو الاقتصادي. ولم يكن لأحد أن يشكك في شرعية الحكومة ما دام الرخاء ممتداً.
كما سعت السياسة الخارجية الصينية إلى منح الأولوية للشرعية في أعقاب 1989، في حين سعى النظام إلى إعادة تأكيد سلطته على الصعيد العالمي من خلال توسيع مشاركة الصين في المنظمات الدولية. واحتضن قادة الصين الطبيعة التعاونية للعملية الأوروبية في مرحلة ما بعد 1945، ولكنهم في الوقت نفسه استوعبوا الدرس الروسي: ألا وهو أن الغرب لن يرضخ لمجرد النوايا الحسنة.
ولكن خلافاً لروسيا، سعت الصين إلى إلغاء التأكيد على أهمية القوة الصارمة التقليدية في تحقيق غاياتها. والواقع أن قادة الصين أنفقوا أقل القليل، نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي الصيني المتنامي، على المؤسسة العسكرية. واليوم لا تنبع قوة الصين من قدرتها على مضاهاة القوة العسكرية الأمريكية، بل مما تمتلكه من سندات خزانة الولايات المتحدة.
كان لتركة 1989 صدى حتى في إيران، التي يبدو من الواضح أن قادتها تعلموا من أحداث ميدان السلام السماوي وانهيار الستار الحديدي أن الحكومة الملتزمة قادرة حقاً على تحييد عامة الناس المطالبين بالإصلاح.
لقد وعد المحتجون في عام 1989 بأن العالم لن ينسى قريباً أهوال ميدان السلام السماوي. ولكنه نسى - وبسرعة غير عادية. وحين نستعيد الآن ذكريات 1989، فنحن في الواقع نتطلع إلى الأمام، انطلاقاً من الأحداث الخطيرة التي شهدها ذلك العام، وإلى التركات شديدة التباين التي خلفها.
(خاص الجزيرة)