الثقافة الصحراوية ترجعنا إلى سلم من القيم الثقافية، لا يمثل فيها العمل الكادح المنضبط قيمة أولية أو جوهرية؛ فالصحراء التي كانت تدخل سكانها في مواجهة يومية قاسية مع البيئة الشحيحة، جعلت العمل الكادح يقع في مراتب قيمية متأخرة على حساب: التحايل، المخاتلة، الكمون والاسترخاء في محيط يتسم بظروف مناخية قاسية، مع الاكتفاء في التجمعات البشرية الصحراوية شبه الزراعية بالحد الأدني من المجهود الذي يحفظ للأجساد طاقتها وقدرتها على المواجهة والاشتباك اليومي مع محيط قاس واقتصاد قائم على الندرة.
ولأن عملية التغيير وإحلال مفاهيم وقيم جديدة (تتوافق مع التغير الزمني) تتم بشكل بطيء وبكثير من الحذر على المستوى المحلي، فإن قوانين اقتصاد الندرة تسربت إلى زمن اقتصاد الوفرة الذي نعيشه في العصر الحالي؛ فخلق هذا الميراث الكثير من الاختناقات في مسارات التنمية على صعيد القوى البشرية المناط بها الكثير من مسؤوليات التنمية، ولاسيما أن المؤسسات الحكومية أو ما يسمى بالقطاع العام دعمت هذا الإرث بل عززته؛ فلم تستطع عبر تجربة إدارية تنفيذية تجاوزت النصف قرن، أن تخلق مناخاً وظيفياً للعمل قائماً على الإبداع والمنافسة وروح المبادرة، بقدر ما تحولت تلك المؤسسات في معظمها إلى مأوى لأعداد كبيرة من البطالة المقنعة التي تقنع بالمحدود المضمون والأمن الذي يوفره راتب شهري يلتهم 60% من ميزانية اقتصاد ريعي ونظام أبوي يجعل من الرواتب شيئاً يشبه (الشرهات)، يطوقه نظام إداري تتجذر فيه المحسوبيات والمداهنة والتقرب بشكل فج من صناع القرار على حساب القدرات الذاتية والذكاء الفطري.
اسم الديوان يعود بنا إلى حقب سحيقة، كذلك هو (ديوان الخدمة المدنية) الذي ما برح يبرقش المؤسسات الحكومية بالوظائف كل عام دون أن يكون هناك من كبير مواءمة بين هذه الهبات والدور الذي تلعبه في دفع عجلة التنمية أو الاستجابة لمخططاتها.
القيم القديمة المتعلقة بالعمل لا بدَّ أن يتم مقاربتها وتفكيكها ودفعها نحو مراتب متدنية، مقابل أولوية الانضباط والإتقان وروح الإبداع والمغامرة مع روح منافسة متقدة كحافز للتفوق، يحتمها واقع الانفتاح على مشاريع عملاقة وسوق عمل حديث متطلب معقد وحافل بالتحديات.
وعندما يكون المضمار متاحاً للجميع وتحت نفس الشروط، فلن يصل للخطوط النهائية سوى الخيول النجيبة الذكية المتفوقة بالفطرة، ولن يكون هناك من حيز لتلك التي أوصلتها السلالة أو ورقة واسطة أو هاتف شفاعة.
لا بدَّ أن تكون هناك عملية إحلال وتشريب اجتماعي يتم بالتدريج وعلى مراحل متقدمة لسلم قيمي جديد يتفوق فيه من يبدع ومن يعمل ومن يخطط.. ومن يستطيع أن يحدث تغييراً إيجابياً في محيطه.