النزعة إلى مفهوم الإنسانية humanism في أيامنا هذه نزعة تدفعها نزعة غير دينية وتزداد انتشاراً في العالم، وهي محاولة للتخلص من الانتماء الديني بحجة في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب.
يذكرون أنه عندما يتم رفض دين ما، أو لا يكون الشخص ملتزماً بدين أصلاً، يمكن طرح السؤال: هل هذا كل شيء، أو هل هذا نهاية المطاف؟.. ويذكر الملحدون أن فكرة ما وراء الطبيعة (الغيبيات) جاءت من مصدر بشري، أو بمعنى آخر يذكرون ألا وجود للفكرة ابتداءً، وأن الناس مسؤولون عن أنفسهم. هذا الإلحاد (انتفاء وجود الإيمان عند الملحدين) لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى شيء أدهى وأمر، ومن المعلوم أن الإلحاد والكفر وجهان لعملة واحدة. والإشكالية في النزعة الإنسانية ما يذهب إليه المنادون بها قائلين: حتى لو لم نوظف الدين فلابد من طريقة نتعامل فيها «إنسانياً» مع بعضنا الآخر، ويرمون بالطبع إلى أن هنالك ثمة طريقة، أو «فكرة»، بديلة يمكن أن تقوم مقام الدين.
وفي نهاية المطاف، وفي غياب المعتقد الديني ومن أي نوع، يجنح الملحدون والمشككون (المرتابون) وما يسمون بالمتحررين فكرياً إلى مبدأ الإنسانية العلماني. تقوم المبادئ الأخلاقية لدى المتبنين للإنسانية العلمانية عن طريق النتائج النفعية للناس لا على أساس توافقها مع أفكار مسبقة من الصواب والخطأ. ولا يقر الإنسانيون العلمانيون بالواجبات والمعاني والقيم والأخلاقيات المفروضة من الخالق سبحانه وتعالى، وهم بذلك يؤكدون على إلحادية واضحة.
ويرى هؤلاء المبتدعون أن المكونات الأساسية للأخلاقيات المؤثرة معترف بها كونيا. ويذكر بول كورتز، واضع ما يعرف ب»الأصول الأخلاقية العامة،» والتي تشمل في نظرة: «النزاهة والثقة والإحسان والإنصاف،» أن هذه القيم يحترمها البشر ليس لأن الأديان تنادي بها ولكن لقيمتها لديهم، والتي لا يمكن أن يعيشوا في مجتمعات سوية بدونها. فلاحظ قارئي الكريم جنوح العلمانيين الواضح، إذ من وقاحتهم وعنجهيتهم تبنيهم لمبادئ ذات مصدر تشريعي ولكنهم يجحدون ذلك ثم يدعون أن مصدرها جاء من عندهم. والإنسانية العلمانية تقدم في قالب غير ديني، على الرغم من أن مبادئها دينية أصلا، وبذلك يحثون بجهد على توجيه الكثير من البشر للسعي إلى تحقيق حياة إنسانية، غنية فكرياً وأخلاقياً وعاطفياً، دونما الاعتماد على الإيمان أو الانتماء الديني.
ويذكر جرج إيشتاين في كتاب له صدر مؤخراً بعنوان «جودة بلا رب»، والملقب ب»القسيس الإنساني» والعامل داعية للطلاب غير المنتمين دينيا في جامعة هارفارد، أن أعظم «ديانة» انتشاراً في الوقت الحاضر في الولايات المتحدة: «غير الدينية.» ويصف «المجورة الإنسانية» باعتبارها مكانا تترعرع فيه الأسرة والقيم الأخلاقية ومرسخة للروح البشرية دونما حاجة للإيمان بإله. ويحتفل الإنسانيون العلمانيون بالثالث والعشرين من سبتمبر كل عام، وقد بدأ الاحتفال بهذا اليوم منذ عام 2001م، ويطلق على اليوم ب»النور الإنساني.» لاحظ أن فكرة النور تأتي من لدن النصارى تحت مصطلح «التنوير» فثمة تشابه في أقوالهم. ثم لاحظ، أيها القارئ الكريم، أن أمثال هذه الأفكار والمفاهيم يحاول البعض تمريرها بوعي أو بدون وعي ودسها في ثقافتنا ليختلط الحابل بالنابل وتحدث البلبلة التي يسعون من أجلها.
وجرج هذا «حاخام إنساني» حاصل على درجة الماجستير في الدراسات اللاهوتية من كلية اللاهوت في هارفارد، ويذكر أنه كتب كتابه ليرد على من يتساءل: كيف يمكن أن تكون بشراً سوياً دون أن تؤمن بخالق؟ ويذكر ذلك الملحد أنه يدرك بأن «يوم النور الإنساني» يعتبر واحداً من الأعياد التي يحتفل بها الإنسانيون الملحدون في هذا اليوم من كل سنة. ويقول: حتى لو احتفل بعض الإنسانيين بمناسبة دينية فذلك من وجهة نظر ثقافية ليس إلا، أي لا يعني ضرورة أنهم يعتقدون بدين معين أو أنهم ينتمون لملة معينة.
والمناداة بالإنسانية، بمثابة دين موحد، بالنسبة لهم، إذ إن حجتهم أن كل ديانة لا تؤمن بالأخرى، فلا يؤمن النصارى بالإسلام كما لا يؤمن المسلمون بالنصرانية، وقد فاتهم أن المسلم، بحمد الله، يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وهذه هي الأركان الستة للإيمان. الحل لديهم هو اعتناق «الفكر الإنساني» ليكون الموحد بين البشر، والذي يغني من وجهة نظرهم عن الانتماء لأي دين من الأديان. ويعتقدون أن «فكرة الإنسانية» تحولت تدريجياً من الدين إلى الناحية الثقافية إلى العلمانية منتهية ب»الإنسانية» متحولة معتقداً بالنسبة للأجيال المتأخرة. إذن الحل عندهم: عندما لا تستطيع الانتماء لأية ديانة فاجنح للإنسانية، لتكون بمثابة دين بديل.
يقولون، مثلاً: «اليهودية الإنسانية،» أي تحويل اليهودية إلى فكرة إنسانية، وهكذا بالنسبة للنصرانية، ولربما يريدون ذلك بالنسبة للإسلام كذلك، وعلينا المسلمون فهم أفكار أولئك والتصدي لها ومحاولة تحصين مجتمعاتنا من التغرير بها وصد كل من يحاول دس السم في الدسم. وهم بذلك يدعون في واقع الأمر إلى مبدأ أصبح بمثابة الدين، بل أقوى منه. وهنا يقال: إذن لا مندوحة للإنسان من وجود دين، وإذا كان الأمر كذلك فهل يمكن المقارنة بين الدين الرباني وأي دين وأي مبدأ من وضع الإنسان الضعيف، الذي لا يملك من أمره شيئاً؟.
ومن غير الواضح لشخص أن يصف نفسه ب»الإنساني،» وهو مخلوق وحيد في عالم «مخيف» مليء بالمصاعب ومحفوف بالمخاطر بل وبالمصائب، في الوقت الذي يراعي الدين الشأن الإنساني، بأدق التفاصيل، والمثال على الجانب الإنساني في الدين الإسلامي الحنيف، طبعاً لا يقارن ذلك بالأديان الأخرى التي حرفها بنو البشر، وانتزعت منها الصفة الإنسانية، بل أقل المبادئ المرتبطة بها. ولو عدنا لمفهوم الإنسانية، عند المنادين به وبهذه الصفة المذكورة، نجده مفهوماً تم تحديده من قبل جمعيات أو رابطات مؤسسية، أي أنه بشري المصدر، وقابل للخطأ والصواب، ولا يمكن أن يقال مثل هذا بالنسبة للتشريعات الربانية. ويعترف المنادون بالمبدأ بأنهم لا ينادون بشيء فوق طاقتهم البشرية، أي أنهم يعترفون تصريحاً، وليس تلميحاً، بعجزهم وقصورهم عن وضع مبادئ وتشريعات تضاهي التشريعات الربانية.