لم تكن القضية تحتاج إلى أكثر من عرض أسعار وتعميد فوري لتأمين جهاز حاسوب وطابعة وبرمجيات، ولم يكن المبلغ يتجاوز (عشرين ألف ريال على الأكثر). ولأن صاحبنا ذو خبرة في هذه المسائل فقد فوجئ بطلب الموافقة على عرض آخر بمبلغ مضاعف ست مرات على الأقل، وحين ظن الأمر ملتبساً بحُسْن نية وأوضحه بما لا يقبل التأويل، رأوه عقبة أمامهم، ورأى نفسه عبئاً عليهم، ومضى كل إلى طريقه.
**لم تمكث الحكاية في ذهنه، لكنه كان يتأملها كلما استمع إلى دعاء خطيب الجمعة عن (البطانة الصالحة الناصحة)، وآمن، وهو يؤمِّن مع المصلين، بأنها مبتدأ الإصلاح كما الفساد، وهي مفتتح الحل والمشكلة، ومَنْ تكون البطانة إن لم تكن الوزيرَ لمن فوقه، ووكلاءَه له، والمرؤوس للرئيس، والمستشار للمستشير، وهي مَنْ يصنع الفعل، ويحسن القول، ويدل على الخير.
** البطانة تقود الحراك الواعي لمصلحة الأمة، كل الأمة، وحين يعم الجمود تقود البطانة التجديد، وإذ يسود النفاق تتصدر البطانة للصدق، وهي التي تحارب المحسوبية والرشى والبطالة والظلم، ومواصفتها القياسية نكران الذات وتجاوز المكاسب وحساب العواقب الأخروية والإخلاص لله بدءاً ومنتهى، بعيداً عن مزايدة الأدلجة والمظاهر، وتصنيف التدين وفقاً للشكل، والوطنية توافقاً مع النجومية.
** القضية هنا تتصل بمحاربة الفساد ومحاسبة المفسد، عندما لا يزكّى أحد لهيئته أو منصبه أو انتمائه، وأمامنا نموذج (الغفاري أبي ذر) - رضي الله عنه، فيما رواه عنه الإمام مسلم أنه قال: قلت يا رسول الله: ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها».
** ومن المؤسف أن من النماذج التي تتساقط في زمن العلانية والشفافية والمساءلة هي من كان الناس يظنونهم قديسين، بلغوا من الصلاح أعلاه، حتى إذا انكشفت السُتُر وبان المستور تواترت روايات عمن أخذ بدون حق، وأثرى من غير جهد، وانقادت له الوجاهة وتصدر الواجهة وهو لا يملك مؤهلاتها الأخلاقية.
** بدأ الناس يعون، وإن كان بصورة وئيدة، أن «ما كل بيضاء شحمة»، وأن الأقنعة السميكة تبلى فتشف عما تحتها، ولم يعد ثمة مكان دائم للاستتار، وكمَّ الوثائق الإدارية التي ترصد الحركات والسكنات (الوظيفية) ستكون ميداناً لاختيارات واختبارات، وما قد يتجاوزه اليوم سيقف عنده الغد.
** في أجمل تعاريف الإدارة أنها العمل من خلال الآخرين؛ وحين يختار المسؤول النزيه آخريه سيجد رضا الله وعباد الله، بفرض أن يكون الآخرون ناصحين لا يكتفون بالفرجة، أو يتشبثون بالغنائم؛ فحقوق الله والناس لن تضيع مهما خفي الأمر أو طال العمر.
** الفضائل ليست ألقاباً.
Ibrturkia@gmail.com