وصلت الحالة الطائفية في الشرق العربي إلى وضع حرج، قد يجر المنطقة إلى ما لا تحمد عقباه، فقد أصبح التفكير من خلال العقل الطائفي يمهد إلى حدوث صراع وانقسامات، وربما حروب جديدة في المنطقة، ويأتي دخول رجال الدين في الطوائف ميدان الحراك السياسي سبباً رئيساً في طغيان اللغة الطائفية على لغة التعبير السياسي، وما حدث في إيران بعد الثورة، والعراق بعد سقوط بغداد.. دليل على أن سكان هذه المنطقة لم يتجاوزوا مبدأ حرية التعبير خارج إطار العقل الطائفي، كذلك كان لحدة الخطاب الدعوي السني صولات وجولات في تأجيج الطائفية في المنطقة في عقود خلت..
اعتاد علماء الدين وبعض الفقهاء من مختلف الطوائف على بث آرائهم المتطرفة ضد المخالفين، وعلى شحن العامة بمشاعر الكراهية ضد الآخر، ولو رجعوا قليلاً إلى خارطة انتشار الطوائف في الشرق لربما أدركنا أعماق هذه المشكلة، فالوضع الطائفي الحالي يمتد إلى قرون، ولم تتغير ملامحه ولا مفرداته، وكان من المفترض أن نصل منذ زمن طويل إلى حالة من الوفاق السلمي الذي يعترف بوجود الآخر، ويدعو الرموز إلى التوقف عن إثارة النعرات الطائفية في المنطقة، لكن خطاب التسامح.. أو تحمُّل الآخر لم يكن له وجود في ثقافة المسلمين..
امتدت ظاهرة الهجوم ضد الطائفة الأخرى في المجتمعات المسلمة إلى قرون عديدة، ولا يزال يعتقد البعض أن نقد تجريح الطوائف الأخرى في عقائدها بإمكانه إصلاحها إلى العقيدة الصحيحة، في حين أثبت التاريخ أن العقائد لا تتبدل إلا بالتهجير.. أو التغيير القسري، وهي وسائل لم يعد لها حضور في التاريخ الحديث، كذلك ليس للحوار العقلاني تأثير على عقول العامة، إذ يتفق مختلف علماء الدين والفقهاء أن لا مكان للبرهان العقلاني في الخطاب الديني، وأن الدين هو عقيدة وأصول يؤمن بها العامة عن ظهر قلب، ويعتقدون أن الإيمان بها يقربهم من الله عزّ وجل، وقد تعلموا من مشايخهم أن لا يسمعوا من دعاة العقل في أمور دينهم، إذ لا يمكن للعقل أن يُستخدم في فك شفرات وألغاز العقائد الأخرى أو إبطالها، فهم جميعاً يعتمدون على نصوص تختلف وتتنوع مصادرها..
يختلف الموقف كثيراً في مجال الثقافة والفكر، فالنقد الفكري هو الطبيعة التي لا يمكن الاختلاف فيها عند الحديث عن الفكر الإنساني، حيث من المقبول أن يتم تشريح وتقطيع أوصال الفكر الإنساني، بينما يختلف الأمر عند تناول عقائد الآخرين، إذ لا يقبل عادة علماء الطوائف الحوار العقلي والبرهاني لفك حالة الخلاف العقدية بين طوائف المسلمين، فما بالك في أن يستخدم أحدهم النقد غير الملتزم بالأساليب العلمية والأخلاقية ضد الآخر.. حتماً سيزيد ذلك من تأجيج روح الكراهية والبغضاء بين الأتباع من الطرفين، وسيزيد من حدة الانقسام بينهم..
يذكر تاريخ المساجلات فيما بين المسلمين ما كتبه الإمام أبو حامد الغزالي عن فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية، قدَّم فيه جهداً علمياً ضخماً لدفع أسس العقيدة الإسماعيلية، ومع ذلك لم يستطع من خلال ذلك الجهد العلمي أن يؤثر في انتشار عقيدة التعليم الإسماعيلية، وقد أدى كتابه إلى ردة فعل في المقابل، إذ رد عليه الداعية الإسماعيلي علي بن الوليد في كتابه دامغ الباطل وحتف المناضل في مجلدين، وصل عدد صفحاتها إلى 1250 صفحة، وكان في ردوده قاسياً وحاداً، هاجم من خلالها الغزالي كثيراً، وذلك لأن أتباع العقيدة أثارتهم قضية نقد أصول عقيدتهم المقدسة حسب تعاليم دينهم، فكان الرد بمثابة الانتقام من الهجوم النقدي من قبل أبو حامد الغزالي..
في حين نجح أبو حامد الغزالي في مهاجمة المفكرين في كتابه تهافت الفلاسفة، واستطاع من خلال كتابه أن يؤثر على الموقف العام من الفكر، عندما كشف تهافت عقائدهم وتناقض مواقفهم من الألوهيات والغيبيات، والثقافة مسار لا يمكن تنقيته تماماً مما قد يخالف ما يؤمن به الفقيه أو عالم الدين، وكان تأثير ذلك الكتاب كبيراً، فقد تراجع الفكر الإنساني في تلك الأزمنة، ولم تنفع محاولات ابن رشد في إعادة مسار الفكر الإنساني إلى طريقه..
حان الوقت في هذا الزمن أن يضع الإصلاحيون حداً للتداخل العنيف بين رموز الطوائف، على أن تتفق الأمة على وثيقة من مبادئها أن لا تتداخل لغة الخطاب الطائفي مع المبادئ والمواقف الوطنية، وأن يتم استبدالها بلغة مثقفة من ضيق الأفق الطائفي، وذلك لردم الهوة العميقة بين أتباع الطوائف، وتحرير العلاقات الإنسانية بينهم من مشاعر الكراهية ومواعظ البغضاء ومواقف العنف.. كذلك يجب إعطاء النقد الثقافي مساحة أكثر، وذلك لعمق تأثيرها على الناس، ثم قدرتها على إحداث التغيير الإيجابي في مصلحة المنطقة..