الرياض - خاص بـ (الجزيرة) :
رأى مدير إدارة الشؤون الدينية بالإدارة العامة للخدمات الطبية بالقوات المسلحة المقدم عبدالمنعم بن صالح العُمري، أن الغزو الفكري أخطر من الغزو بالسلاح، لأنه يغيّر الأفكار والقيم والمفاهيم تراكمياً، بطرق خفية لا شعورية، مما يدفع الفرد إلى ارتكاب أعمال إرهابية أو إجرامية، مشدداً على أن فتنة الإنسان في دينه أخطر وأكبر وأشد من التعرض للقتل.
واعتبر الإعلام بوسائله المختلفة أكثر خطراً وتأثيراً إذا استغلت في التأثير السلبي على الأفراد فكرياً وعقدياً من خلال القنوات الفضائية، والإنترنت، والإذاعة، والصحف، ونحولها.. محملاً المجتمع ومؤسسات وهيئات حكومية وأهلية مسؤولية حماية أفراده من مخاطر الغزو الفكري.
في البداية هل هناك تعريف للأمن الفكري؟
- نبدأ أولاً بالحديث النبوي الوارد عن أَبِيْ عَبْدِاللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بِشِيْر - رضي الله عنهما - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ: ?إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَات لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاس،ِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرأَ لِدِيْنِهِ وعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ. أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً. أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهيَ القَلْبُ? رواه البخاري ومسلم، فالحديث يدل على ما يحمله الإنسان في قلبه من أفكار ومعتقدات أو شبهات علاقة مباشرة وتأثير واضح على تصرفاته وسلوكه، ولذا جاءت أهمية حديثنا هنا عن الأمن الفكري حيث ستتضح لنا أهمية الفكر على تصرفات الأفراد والشعوب ومن ثم تأثيره على نهضتنا ورقيها ووحدة صفها وترابطها، وعمّا هناك من التعاريف المتشابهة للأمن الفكري ويمكن تلخيصها بأنه يشمل جميع الوسائل للحفاظ على الأمن الذي يحافظ على الفكر والمفاهيم والقيم الحسنة للفرد والمجتمع من المؤثرات التي تضلل الفرد وتهدم المجتمع.
وما الفرق بين الأمن الحسي والأمن الفكري؟
- الأمن الحسي: هو ما يتمثل بالأمن العام بجميع الوسائل الحسية المادية التي تستخدم في مكافحة الجريمة والعدوان المسلح الخارجي وتقوم بها أجهزة مختلفة في الدول مثل: الشرطة - الجيش - الحرس الوطني - حرس الحدود.. إلخ...
الأمن الفكري: هو الأمن المعنوي لحماية الأفكار والمعتقدات والقيم والسلوك وهو الدور الذي تقوم به الجهات المختصة بهذا المجال مثل: المساجد (مثل الدروس العلمية وخطب الجمعة) - الجامعات - الدورات والمؤتمرات المختصة في هذا المجال - وزارة الشؤون الإسلامية - إدارات الشؤون الدينية بالقوات المسلحة - كراسي الأبحاث (مثل كرسي الأمير نايف لدراسات الأمن الفكري بجامعة الملك سعود) - مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية - إدارة الأمن الفكري بوزارة الداخلية - هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وما علاقة الأمن الفكري بأنواع الأمن الأخرى؟
- تنبع أهمية الأمن الفكري بأن له صلة وثيقة وتأثيراً مباشراً على جميع أنواع الأمن الأخرى، سواء الأمن السياسي، والأمن الغذائي، والأمن الاجتماعي، والأمن السلوكي، والأمن الإعلامي، والأمن الصحي.. فمتى ما كان هناك خلل في الأمن الفكري فتلقائياً يحدث خلل في باقي أنواع الأمن الأخرى، وهو سبب الاستشهاد بالحديث النبوي السابق، فالأمن الفكري في مقام القلب في الجسد وبقية أنواع الأمن يتمثل بقية أعضاء الجسد، فهو في مقام القَلْب في الجَسَدِ.
وما الفكر المراد تأمينه؟
- يكون بحسب تصورات الأمم والشعوب فلكل أمة اهتماماتها، فنحن المسلمين مطلوب منّا أن نحافظ على النظرة الإسلامية للحياة في جميع ميادينها: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإعلامية وهي أخطرها وأكثرها تأثيراً.
أما الناحية الدينية فنستطيع أن نقول: إنها موجودة في كل نواحي الحياة لأن الإسلام نظام للحياة التعبدية والدنيوية ?قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? (سورة الأنعام 162).
وماذا عن علاقة الفكر بين الفرد والمجتمع؟
- إذا اختل الأمن الفكري لدى الفرد اختلت قيمه ومبادئه فإذا استفحل الأمر في المجتمع سهل التأثير عليه فيغفل عن أهمية وحدة الجماعة واحترام وطاعة القيادات بمختلف مستوياتها بداية من الحاكم الأعلى، ولا ينتبه إلى خطورة العواقب الناتجة عن تفكك المجتمع واختراق وحدة صفه، وطاعة ولاة أمره، وتكون التأثيرات غالباً بطريقتين: الإغراءات المادية كالمال أو الوظيفة وأن يشارك بعمل معين سيكون له مردود وتستغل حاجات الناس في مختلف المجالات وعلى ما يسمى بالقيام بعمل من أجل الشهوات الدنيوية، وبتغيير القناعات والمعتقدات كما حدث في الآونة الأخيرة من الأفكار التكفيرية أو الجهادية غير المنضبطة بالضوابط الشرعية وتسمى الشبهات والتي حسبما نشأت أغلب الفرق والمذاهب الضالة.
هل الأمن الفكري يعني منع التغيير الإيجابي؟
- الأصل أن يكون الأمن الفكري إيجابياً وفي صالح المجتمع، لكن قد يعمد البعض للقيام بمنع التغيير الإيجابي بدعوى الحفاظ على القيم والعادات لكنهم يستغلون ذلك حفظاً لمصالحهم الشخصية، ففي قصة موسى عليه السلام مع فرعون يتضح تخوف فرعون من دعوة موسى لأنه يعلم بأن تغيير دين قومه سيحدث خللاً في ملكه.?وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ?(سورة غافر 26)، وقوله تعالى: ?قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ?(سورة يونس 78)، وكذلك اعترض قوم هود عليه السلام ?قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ?(سورة الأعراف 70)، وتتكرر مع قوم صالح عليه السلام ?قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ? (سورة هود 62).
وقد واجه محمد صلى الله عليه وسلم ذلك مع كفار ومشركي مكة عدة أنواع من الحصار لمنعه من التأثير في الناس ومن ذلك محاولة منعه من مقابلة من كانو يأتون لمكة للحج أو الطواف بالكعبة ومن أشهرها قصة الطفيل بن عمر رضي الله عنه عند قدومه لمكة للطواف بالكعبة حيث استطاع زعماء قريش أن يقنعوه بعدم الاستماع أو الحديث مع محمد صلى الله عليه وسلم إلى درجة أنه وضع قطناً في أذنيه كي لا يسمعه ولكن الله ألهمه فأزال القطن من أذنيه واستمع لمحمد صلى الله عليه وسلم فأسلم رضي الله عنه.
هل هناك فرق بين الأمن الفكري والغزو الفكري؟
- الغزو الفكري هو بث المفاهيم الفاسدة عن الدين والحياة وعن الأخلاق والسلوك، وعن شروط التقدم الحضاري ووسائله إلى غير ذلك مما يمكن أن يهدم شخصية المسلم والأمة الإسلامية، والغزو الفكري أخطر من الغزو بالسلاح لأنه يغير الأفكار والمفاهيم والقيم تراكمياً بطرق خفية لا شعورية وتأثيره أشد وأفتك، ودليل ذلك قوله تعالى: ?وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ? (سورة البقرة 191)، وقال تعالى: ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ...?(سورة البقرة 217)، حيث توضح الآيتان أن فتنة الإنسان في دينه أخطر وأكبر وأشد من التعرض للقتل.
ومثال أن تأثيره خفي: الأب قد يضع أبناءه ويسلمهم للأعداء في منزله أمام وسائل الإعلام الهابطة كالقنوات الفضائية أو الإنترنت بدون ضوابط، أو الألعاب الإلكترونية وذلك كل يوم بما يقرب من ثماني إلى عشر ساعات أو أكثر وأفكارهم ومفاهيمهم وقيمهم تتغير تراكمياً دون أن يلقي لذلك بالاً، بينما لو تعرض أحد أبنائه لخطر حسي كمرض أو نحوه لاهتم أشد الاهتمام وتجد الأب يشتكي من تغير تصرفات وسلوك الابن ويتحدث عن الأعراض ولكنه لا ينتبه إلى جذور المشكلة وهي البيئة الإعلامية الفاسدة التي أثرت في سلوكهم.
كما أن الدراسات والإحصائيات تدل على الأحداث التي وقعت في بلادنا خلال السنوات الأخيرة كالتفجيرات المؤسفة، والأفكار التكفيرية الخطيرة، والخروج على ولاة الأمر، كان من أهم أسبابه التأثيرات الفكرية ومن أبرزها التأثر بما ينشر في شبكة الإنترنت، وعند النظر إلى تصرفات وسلوك الشباب والفتيات واختلافها تدريجياً عما كان يعهد قبل سنوات قريبة مثل قصات الشعر والبناطيل غير اللائقة ونحوها، ودنو اهتماماتهم وعدم وجود أهداف واضحة يطمح لتحقيقها، لا شك أن لوسائل الإعلام دورا في انتشارها، كما يمكن ملاحظة أن هناك فئة من المجتمع بدأت تتأثر بما يطرح في وسائل الإعلام من بعض المسلمات، والثوابت العقدية، والقيم الاجتماعية، فأصبحت مجالاً لنقاش عندهم برغم أنها قبل سنوات قليلة لم يكن هناك أي مجال للحديث حولها.
وماذا عن الضرورات الخمسة؟
- يذكر العلماء أن جميع أحكام الشريعة قد بنيت لحفظ ضرورة معينة وقد اختصروا هذه الضرورات بما يسمى (الضرورات الخمس): الدين، والنفس، والعقل، والعرض أو النسل، والمال.. ويأتي في مقدمتها حفظ ضرورة الدين ويوضح ذلك أن التعرض للموت والشهادة في سبيل الله يكون مطلباً وغاية في سبيل الدفاع عن الدين وفق الضوابط الشرعية.
وما وسائل الغزو الفكري؟
- من أهم وسائل الغزو الفكري المعاصرة التي قد يستغلها من يريد التأثير في أمة معينة: الإعلام وهو أخطرها وأكثرها تأثيراً وله عدة صور: القنوات الفضائية، والإذاعات، والصحف، والمجلات، والإنترنت، وكذلك التعليم، والتغريب، والاستشراق، والتنصير.
وهل الأمن الفكري يخص المسلمين فقط؟
- الأمن الفكري ليس خاصاً بالمسلمين فقط بل إن أغلب الدول تعمل على حفظ أفكار وقيم شعوبها، مثال الصين: كل واحد من ست أفراد من سكان العالم هو صيني مما يعني أن هذا المثال ينطبق على أكثر من سدس سكان العالم فهناك دور رسمي للحفاظ على الهوية الصينية في مختلف مجالات الحياة كالتعليم والإعلام ومن أهمها منع القنوات الفضائية غير الصينية في المنازل أو الأماكن العامة عدا ما يعرض في بعض الفنادق من قنوات محددة كبعض المحطات الإخبارية أو الرياضية، ويوجد أمثلة على ذلك في عدد من دول العالم.
وخلاصة القول إن مسؤولية الحفاظ على الأمن الفكري تقع على الجميع فالكل مسؤول عن حماية نفسه وأهله وليس فقط الأجهزة المعنية التي تقوم بدورها كل حسب اختصاصه.. ونسأل الله أن يحمي بلادنا من كل سوء، وأن يحفظ علينا قيادتنا ووحدة صفنا، وأن يديم علينا نعمة الأمن والإيمان.