ما أكثر ما يختلف الناس، ولو صفت الأذهان لقل الالتباس، ولعل من أسباب ذلك، أنهم لا يستمعون لبعضهم حتى يفرغ المتحدث من كلامه، بل يتنقلون من موضوع لآخر قبل الوصول إلى نهاية البحث والتداول في الأول،
كما أن الخلط والتقليد يتغلبان أحياناً على الأدلة القطعية الثابتة، فالشخص المرجع أقوى لدى البعض من الدليل القاطع. وقد تُزاحم العادة العبادة بدون قصد ولا إرادة. وللأهداف دور في الاختلاف. ومن لا يفهم ما يقرأ أو يسمع فهو لا يفقه لذا لا يصل إلى غاية ونهاية، ومن تعبث به الأهواء قد يأخذ بأقوال مرجوحة ويدع الراجح والمتأخر من الأقوال حتى عند عالم واحد، ولو توفر الفهم والوعي والإنصاف لتقلص الاختلاف والخلاف. ما أكثر المستعدين للإقناع وما أقلهم للاقتناع. وإذا تبين الخطأ وصاحبه الإصرار عليه فإنه من الخير إيقاف الحوار، حيث لا يرجى الالتقاء المنشود، ولا نبذ الفرقة وما يتولد عنها.
وكما أدخل في مفهوم العقيدة ما ليس منه لهدف سياسي أو مذهب تعصبي، فالعقيدة تتعلق أصلاً وأساساً بثلاثة مقدسة: الله، القرآن، محمد. وما سوى ذلك فالصواب فيه أجره عظيم أو متدرج، والخطأ فيه ذنبه عظيم أو متدرج. ويظل فقهاً أو رأياً أو تاريخاً أو سياسة أو ما إلى ذلك تحت أية تفرعات.
والعبادة التي حصر خلقنا من أجلها، قد يتفرع منها تقسيمات تجمع كل مجموعة بما يماثلها أو يشابهها أو يجعلها بجانب ما سواها ذات صفات مستقلة عما يغايرها ولو اجتمعت معه في مراحل أخرى وسماتٍ وصفات.
ومن التقسيمات الممكنة اعتبار العبادة ذات ثلاث أثاف:
1- العبادات الشعائرية. 2- الأذكار. 3- المعاملات والأخلاقيات والسلوكيات. وهي تتحد أو تتداخل فيما بينها كما تأخذ طابع الانفراد المقيد في صفات وأحكام وأحوال.والتركيز المطلق على بعضها مع إهمال شبه مطلق أو غالب على بعض منها آخر يشبه القدر التي تنصب على ثلاث لتستقر وتؤدي عملها، ولكن صاحبها لو نصبها على أقل من الثلاث لم تستقم ولم تستقر بل تعرضت للضياع بما فيها، وتكون بقية الأثافي عديمة الجدوى. وما زادت سيئات السلوكيات إلا بسبب إدارة ظهور كثيرة لها، مكتفين بالوعظ بما سوى الأخلاقيات والمعاملات.
والملاحظ تربوياً في عصرنا الحاضر التركيز شبه التام من مختلف وسائل التعليم والإعلام الشاملة بمفهومها الواسع، التركيز على الشعائر والأذكار مع إغفال شبه أكثر من غالب للأخلاقيات والإخوانيات كعلاقة المهاجرين بالأنصار زمن الهجرة. والسلوكيات والمعاملات والعلاقات الإنسانية، ومع أنه لا خلاف على الأهمية البالغة للشعائر والأذكار، إلا أن إهمال مستلزماتها ومكملاتها يذكر بقاعدة الفقه (ما يتم الواجب إلا به فهو واجب)، وإذا تذكرنا وتذاكرنا عن الشعائر والأذكار لزمنا ألا ننسى شروط أو عوامل جني ثمارها، وحبال التعلق بها والوصول إليها، وما أكثر ما نقرأ عن كنوز منسية أو نسمع واعظاً حسن النية والمقصد في صلاة الفجر يدعو المصلين إلى صلاة الفجر، لكن قلما استنتجنا من عمر رضي الله عنه معنى ضربه بالدرة لأحدهم قائلاً له: (أمتّ علينا ديننا أماتك الله) وكان يجلس في المسجد يذكر الله، ولا يعمل، وأخوه يصرف عليه وهو عالة على المجتمع، لم يؤمر بما يفعل إلا على نحوٍ مشروع له قياساته التي لا تفرط ولا تغلو. والثلاثة الذين غلوا في التطوع صلاة أو صوماً أو عزوفاً عن الزواج نهرهم مرشد المسلمين صلى الله عليه وسلم، وعائشة رضي الله عنها عندما أرادت الثناء بإعجاب على رسول الله ما قالت: إنه يقرأ القرآن، أو إنه يحفظ أو يرتل القرآن، وهي أمور جديرة بالإكبار، ولكنها قالت ما هو أفضل: (كان خلقه القرآن). ولو أننا مع قراءة القرآن وترتيله وما هو أكثر وهو حفظ القرآن مع الإسلام والإيمان لو أن القرآن صار خلقاً لنا لاقتدينا بخير قدوة، ولربما بلغنا درجة الإحسان، وذلك بالعمل والتعامل بتوجيهات وتعليمات وسلوكيات القرآن الحكيم المجيد العظيم. حديث شريف صريح معناه: امرأة تصلي كثيراً وتؤذي هي في النار، وأخرى لا تصلي كثيراً ولا تؤذي هي في الجنة. ورحم الله امرأً عمل عملاً فأحسنه ولم يخش إلا الله فيه فأتقنه.
قطب رحى الإسلام وأركانه فقها وعبادة بعد الإيمان: الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج. لكن من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ليس في خير. الصلاة خير لكنها يجب أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد يصليها مفلس لا تنفعه إن لم ينقَّها من مبطلاتها فيها وفيما قبلها وبعدها، ولا تقبل العبادة في ثوب مسروق أو مشترى بمال حلال سوى ريال واحد أو أقل مثلاً، وقد تُرمى كالثوب الخلق في وجه صاحبها، والصوم رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب، والزكاة والصدقة بمال حرام لا تقبلان منه، والله طيب لا يقبل إلا طيباً، وسعد بن وقاص رضي الله عنه يورد حديثا معناه: أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والدعوة من الأذكار والتذكير شرطت بالعمل الطيب.
والحج قد يقال لمن لم يلتزم بأوامر الله ونواهيه: (ما حججت ولكن حجت العير) وقد يقول الحاج ملبياً: لبيك اللهم لبيك، فيقال له من السماء: لا لبيك ولا سعديك. بسبب سوء المعاملات وخلل الموقف من النواهي والأوامر الربانية الإسلامية كالاهتمام بحقوق الناس، وطلاقة الوجه وحسن السلوك والخلق والعلاقة بالبشر، وبر الوالدين، وصلة الرحم، واحترام كبير السن، والجار، وطهارة القلب، ونظافة اليد المعنوية، والجهاد، والصدق، والإخلاص، وخدمة الآخرين، والرحمة، والتواضع، والمحبة في الله، وتعلق القلب بالمساجد، والتثبت والتبين، وكف الأذى وآفات اللسان، وعدم ختل الدنيا بالدين فلا ينظر للوظيفة كيف يستغلها وإنما كيف يحقق أهدافها، وعدم إثارة الفتن، واستسهال تكفير أهل القبلة، وعدم التفريق بين الشرك الأكبر والخفي والأصغر، وتمزيق صف المسلمين، ومعاداة غير المعادي: ?وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ?، والربا، والنفاق، والغدر، والمكر، والتعصب الأعمى، والغلظة، والجفوة، والعُجب، وشهادة الزور، والتزوير، وسرقة المال العام والخاص، والزنى، والفحش، والهوى، وقد يصل إلى حد تأليهه، والغيبة، والنميمة، والتجسس، والظلم، والبغي، والحقد، والحسد، والغش، والتطفيف، والاحتكار، والرشوة مع الجد وبذل الجهد في مكافحة سرطانها وطاعونها المميت، والعنف، والكبر (اللهم اجعلني في عيني صغيراً وفي أعين الناس كبيراً) والكذب، والشح، ومن إذا خلا بمحارم الله انتهكها ولو مع صلاة وأذكار، وسوء الإتقان ووهن الإخلاص. ماذا عن صلاة أو صيام وأذكار لكنها لا تحصل مع نزيه دوافع، وقويّ روادع عما نهى الله عنه! الحديث الشريف الذي لا يقف كثيرون عنده مما تضمنه قول الذي لا ينطق عن الهوى: (أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة) ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (أنه لا دين لمن لا أمانة له) ولو استطردت لوجدت الكثير الكثير مما يدور حول هذه المعاني، ولكن يُكتفى هنا بأمثلة لها أمثلة ومن استطرد وبحث وجد. أما الأذكار والتسبيح فهي مع حضور القلب والخشوع والإنابة والتوبة مهمة جداً وفيها تعلّق وسمو وخضوع وإخبات، ولكنها تحتاج إلى شروطها، كالتوبة النصوح مع عدم العودة، والصدق والابتعاد عما يقوِّص بناءها وهو انتهاك محارم الله بالقرب من الفواحش والرجس والنواهي، والبعد عن الأوامر وعن العدل مع النفس والآخرين، والإيثار دون الأثرة، وما إلى ذلك، ومع ربط ذكر جوائز الأذكار بعدم الاتكاء عليها على نحوٍ خادع للنفس بأنها علاج لما يترتب على عصيان الله فيما أمر، وإتيان ما نهى عنه وزجر، معتمداً على أن من قال كذا وكذا: با عد الله عنه جهنم 70 عاماً، غرس له نخلة في الجنة. كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحى عنه ألف ألف سيئة أو خطيئة، ورفع له ألف ألف درجة، حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر، بُني له بيت أو قصر في الجنة، غفر له ما تقدم من ذنبه، غراس الجنة، كنز من كنوز الجنة، من قالها مؤمناً بها فمات فهو من أهل الجنة ولو كانت ذنوبه مثل زبد البحر وعدد الرمل، نزلت الذنوب من بين أصابعه، فتحت له أبواب الجنة الثمانية، وغير ذلك. هذه الثمار للأذكار يجب أن تشفع بمسببات قبولها وحصولها، فلا يتواكل أو يتكل جاهل أو متجاهل عاش على أنها صكوك غفران في حوزته واقية كافية للفكاك من كل عقوبات الموبقات والمحرمات وسيء التعامل والمعاملات مع الإصرار عليها لكيلا يقال للمصلي والذاكر بلا قلب حاضر وبلا إتباع للأوامر: قد تأتي بأعمال كالجبال يوم القيامة فتكون هباء منثورا. وقد زُين لك سوء عملك. كالوجوه الخاشعة العاملة الناصبة التي تصلى نارا حامية والعياذ بالله. (ويل لمن يكثر ذكر الله في لسانه ويعصي الله في عمله) الديلمي.
لذا يحسن أن تشفع النصائح عن الشعائر والأذكار بشروطها وروابطها المتعلقة بمختلف المعاملات والأخلاقيات، فيكون خلق المسلم الصادق القرآن، ومن من قبل قيل عنه: كان خلقه القرآن.
ومن المغتابين من يظن كفارة المجلس تمحو خطأه وإثمه، ولذا يتمادى في التكرار والاستمرار ليل نهار مهيئاً للغفران كفارة المجلس التي للغو لا للغيبة والزور والقذف والأذى. والله المستعان.
? إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ? التغيير إلى الأحسن الأحب إلى الله الأصوب، والإتباع بإحسان يظهر على صحة المجتمع بالقول والعمل والسلوك و(الدين المعاملة). فلنتعرف على نواقصنا وأخطائنا كخطوة لازمة نحو محوها والبرء منها، فنعالج مرضا نداويه اليوم بغير دوائه. هذا إن أردنا مجتمعاً راقياً حضارياً مترابطاً قوياً مزدهراً نامياً متآخياً كالبنيان وأعضاء الجسد الواحد.
ولا حصر لما ورد من حث وثناء على حسن التعامل والخلق الكريم، ورائدنا قدوتنا إنه لعلى خلق عظيم ويقول حصرياً إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وذو الخلق له درجات الصائم القائم، وحسن الخلق له الأسبقية فيما يوضع في الميزان، وأحاسن الناس أخلاقاً لهم أعلى المنازل وصحبة الأخيار الأبرار وهم الموطأون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون بالعدل وحسن السلوك، والتواضع الجم، والصدق والنقاء، هم أهل القلوب السليمة والأيادي النظيفة. ولا يأسر قلوب الناس مثل حسن المعاملة والأخلاق النبيلة. وعلينا التركيز في الدعوة إليها لعلنا نتزود فيها بأكثر المستطاع أو لعلنا نربي أولادنا عليها ليكونوا خيراً منا بإذن الله. ولنبدأ بأنفسنا وأهلنا. لكي لا نكون ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.