Al Jazirah NewsPaper Friday  29/01/2010 G Issue 13637
الجمعة 14 صفر 1431   العدد  13637
 

زعيم وفارس وخطيب
د. محمد بن سعد الشويعر

 

بهذه الكلمات اعترف إبراهيم باشا عام 1232هـ، عندما جاء بحملته على الدرعية وفي طريقه إليها، كانت له معارك ضارية وعنيفة في مدينة الرس وكان قائد أهل الرس قاضيهم الشيخ قرناس بن عبدالرحمن القرناس....

... الذي ولد عام 1190هـ في قرية صبيح القريبة من مدينة الرس، وكانت غلطة في كتاب من المبررات للتصحيح بهذا المقال.. كما أن من التأكيد الدافع لهذا الحديث عن هذا الشيخ بعض الإخوة الذين اطلعوا على مقالة لي سابقة، عن السيد محمود شكري الآلوسي الذي كان له ذكريات، ومديح شعري، في مدينة الرس وأهلها، عندما جاءها في عام 1333هـ.

ثم ما كان من شجاعة وبسالة قاضيها الشيخ قرناس، الذي أعاد للأذهان ما كان للعلماء من دور منذ انبثق نور الرسالة المحمودة، ومسارعتهم للجهاد في سبيل الله، وبرز ذلك في الفتوحات الإسلامية، في القرون الثلاثة الأولى، ثم ما تلاها عندما جاء التتار لبغداد، في المأساة التاريخية المشهورة، التي بها انتهت الدولة العباسية، وبعد ذلك زحف التتار نحو دمشق، وعندما خاف حكام دويلات الشام، ومصر، قيَّض الله من رجال الدين علماء نذروا أنفسهم للدفاع والجهاد، ضد الغزاة الكافرين، وفي مقدمتهم: شيخ الإسلام ابن تيمية في الشام، والعز بن عبدالسلام في مصر.

فبثوا روح الجهاد في سبيل الله، دفاعاً عن دين الله، وتقوية الروح المعنوية في المواطنين، وكان ابن تيمية يعمل من أجل لمّ الشمل والاستعداد للتصدي للتتار عن بلاد الشام، ودون الامتداد إلى مصر، ويمر بالأمراء في حلب ودمشق وحماة وغيرها؛ ليطمئنهم بالاستعداد ويطلب منهم القيادة فقط، ويحلف لهم بأننا سننتصر عليهم، فيرد عليه أحدهم بقوله: قل إن شاء، فيقول: أقولها تأكيداً لا تعليقاً، فالله قد أمرنا بالاستعداد: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِه عَدْوَّ اللّه وَعَدُوَّكُمْ} فقد أعددنا القوة، ومعها قوّة الإيمان.

وقد دخلوا مع التتار معركة (شقحب) التي انهزم فيها التتار شرّ هزيمة قرب دمشق، وامتلأت الأرض من جثثهم، التي بعدها أسلم أكبر قوادهم (جنكيز خان).

كما كان علماء ومشايخ الدعوة أيضاً في مقدمة المحاربين في الدرعية، ضد حملة إبراهيم باشا؛ فالعلماء هم القدوة دائماً في تاريخ الإسلام.

وبلدة الرس إحدى المدن في الطريق من المدينة إلى الدرعية، وأصلها قديم؛ فهي من موارد الجاهلية، وقد ذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان (3: 43-44).

ومثلما أن محمود شكري الآلوسي مكث فترة في الرس في عام 1333هـ، وأعجب بها، وتغنى بها في أشعاره؛ فإن إبراهيم باشا قد استهان بالرس لما تصدّى له أهلها، بعد أن فشلت حملات جاءت عن طريق ينبع فالمدينة، ومنها حملة طوسون كما يقال.

وكان الشيخ قرناس قد وصل عائداً من المدينة، بعد أن انتهى عمله فيها، الذي أسنده إليه الإمام سعود بن عبدالعزيز - رحمه الله - باسم: قضاء الجيوش المرابطة في المدينة المنورة عام 1222هـ، فكان عاقلاً حازماً، حتى اختص بقضاء الرس وملحقاتها، فكان كما قال ابن بسام: المرجع إليه، وله مع العلم والقضاء زعامة وجاه عريض.

وقد تحدَّث عن دوره البطولي كل مَنْ كتب عنه، واخترت للنقل عنه محمد القاضي، في كتابه روضة الناظرين؛ حيث قال عن الشيخ قرناس: فقاد جيش جماعته في الحرب ضد حملة إبراهيم باشا، وكانت حينما حصر الرس، وهي محصنة، تحت قيادة أميرها منصور بن عساف، وهو من الشجعان البواسل، الذين قاوموا إبراهيم باشا مقاومة شديدة؛ فلم يمكنوه من دخولها، وأُصيب منصور (بقلّة) يعني قذيفة من رصاص أحد المدافع، فانعثر الأمير منها، ونادى متصرخاً ومستنجداً: يا إخواني مَنْ يقوم مقامي، وأجره على الله، يا عباد الله: قاتلوا في سبيل الله، وذودوا عن محارمكم. فانتدب لهذا النداء الشجاع المقدام الشيخ قرناس بن قرناس، ونادى بأعلى صوته: من كان يريد الشهادة فليحسر عن ساعديه.

وقد تولى القيادة، وهو القاضي، والمدافع مصوّبة جهة القرية، ويعني بها مدافع الروم، وكان عدد سكان الرس (4000) أربعة آلاف رجل، لكنهم قاوموا جيش إبراهيم باشا، الأكثر عدداً وعدة لمدة أربعة أشهر تنقص عشرة أيام، في قتال شديد، قد حمي وطيسه.

ولم تزل الرماية بيد أهل الرس، بقيادة قاضيهم الشيخ قرناس، وبيد إبراهيم باشا الذي حاصرهم من جميع الجهات، بقوات قوية، وجيش مدرب، ويناديهم معتداً بقوّته: سلموا أنفسكم.

وهم متحصنون ومقاومون له، حتى نفد ما عندهم من ملح ورصاص. وفي هذا الموقف قام الشيخ قرناس، واستشار جنده: ماذا نفعل؟ فأجمعوا رأيهم على أن يجعلوا على مفارق الطرق أحواضاً من الماء، فملؤوها، ووضعوا على أيديهم جلوداً فما سقط من (قلّة) يعني قذيفة من المدافع، أسرعوا لأخذها، ومن ثم يغمسونها في حوض الماء، حتى تبرد ثم يفكونها، ويأخذون ما فيها من ملح ورصاص؛ ليصنعوا من ذلك قذيفة، فتعود بسلاح أعدائهم عليهم، وحموا بلدهم من شرّهم.

ولما كانت الحرب مخادعة فقد استعمل إبراهيم باشا حيلة، لما طال الحصار، وتعاظم الأمر، وتفاقم الشر، فقد أمر صاحب المدافع بأن تعبأ ملحاً كثيفاً، وجعلوا يثيرون بالأرض حتى ثارت الغبرة، مع الدخان الكثير، وجعل الرجل لا يبصر صاحبه، ولا جليسه، ولا يعرف صديقه من عدوه.

ومع الغبرة ظلمة الدخان وسواد الليل؛ فتهافت جيش الباشا، ودخلوا مع ثلمة في السور، ودخلوا القرية، وتحصنوا في بيت كبير للرشيد مهجور، كان على طرف السور.

فلما علم الشيخ قرناس، وبرأيه الثاقب، استنجد بجنده، وبالمدن والقرى المجاورة، وناداهم بالمثل السائر: «من تغدّى صاحبي تعشّاني» العسكر حاصرونا.. المدد المدد.

فجاؤوا مسارعين نحو صوت الداعي عدداً وعدّة من كافة أنحاء القصيم؛ فأزالوا الحصار عنهم بشجاعة؛ لأن الباشا دخل عليهم في عقر دارهم، واستمر الشيخ القائد قرناس يشجعهم، ويقاوم بشجاعة وبسالة ويقول: إليّ عباد الله، إياكم والفرار، النجدة النجدة، دافعوا عن دينكم، وذودوا عن محارمكم، فالحي منكم سعيد، والميت شهيد.

فجعل الرصاص يتساقط عليهم كأنه التمر من رؤوس النخل، فلما رأوا شدته وكثافته لبسوا أثواباً مملوطة بالتمر، ودخلوا القصر يتقدمهم زعيمهم قرناس.

فرماهم العسكر فصار رصاصهم، بالأثواب والأبواب المحبوكة بالتمر، وقتلوا العسكر بأسيافهم، فأزاحوهم من القصر، وسدوا الثلمة بجثثهم، ثم بنوها بالليل، وتحصنوا وتترسوا عنهم به، وقُتل من العسكر ما يزيد على (1500) ألف وخمسمائة مقاتل. هذا ما ذكره صالح بن قرناس، أما ابن بشر فيقول (600) ستمائة.

فلما رأى إبراهيم باشا الفتك بعسكره راسلهم طالباً الصلح؛ فأجابه الشيخ قرناس: ليس عندنا مانع من الدخول في مفاوضات، بشرط أن تدخل إلى البلد وحدك فقط، ولك الأمان.

فوافق، وكان يوم جمعة، فتفاوضوا ساعتين، ولكن لم تتضح نتيجة هذه المفاوضة، وحان وقت الصلاة فمشوا إليها متجهين إلى الجامع، ومعهم إبراهيم باشا، فصعد قرناس المنبر للخطبة، فاندهش إبراهيم باشا وقال: «زعيم وفارس وخطيب»، وانتهت المفاوضة، ولم يمس أهل البلد بسوء، ورحل عنهم الباشا صباح يوم السبت قاصداً شقراء ثم الدرعية.

وقد سجَّل موقف الشيخ قرناس الشيخ أحمد بن دعيج في أرجوزته عن حرب الدرعية فقال:

وشبّ نار الحرب فوق الرسّ

ثلث السن يضربهم بالقبس

وصبروا وصبرهم قربانا

اصبر في الهيجاء من أبانا

رجال صدق في اللقا والباس

أعيانهم وشيخهم (قرناس)

يقول ابن بسام في كتابه (علماء نجد): وقد أبقاه إبراهيم باشا في قضاء الرس، واستمرَّ فيه حتى توفي عام 1262هـ، ولما بلغه أنّ الباشا سفّر آل سعود وآل الشيخ إلى مصر، وأنه توجّه للقصيم، فحينئذ استتر منه، وانحاز إلى قرية (النبهانية) غربي القصيم، فكان يأوى إليها ليلاً، ويظل نهاره في غار في جبل (أبان الأسود) ويعرف الآن باسم غار (قرناس)، ولم يزل كذلك حتى سافر الباشا، وغابت عساكره، فرجع إلى وطنه وصار قاضياً على القصيم كلها، واستمر في قضاء الرس وملحقاتها إلى أن توفي.

ومن استقراء الحرب تتضح أساليب ابتكرها محاربو الرس، مع الصبر والمصابرة، والحرب مكيدة وحِيَلْ.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد