مبررات الرغبات، والمنافحة عنها، لها أوجه كثيرة، ومن اليسير على المرء أن يجد لنفسه مبرراً لإتيان ما يحب، حتى وإن كان شغفه يصده عن الحق، ويجانبه الصواب، والرغبات ربما ترتبط بذات المرء، أو في ميله لمن أحبه، أو حَسُنَ في عينه.
كان والي إحدى المدن الأندلسية ويقال له ابن حُريز قد قرَّب إليه كاتباً يقال له عبدالحميد بن لاطون، وجعله أحد كتّابه، وكان في هذا الكاتب تغفل شديد، فأمره ابن حريز أن يكتب كتاباً إلى حاكم شرق الأندلس آنذاك المأمون بن ذي النون في شأن حصن صغير جداً ليس له أهمية مدنية أو عسكرية دخله النصارى واستولوا عليه، فكتب كتاباً على لسان بن حريز ومما قال فيه (قد بلغني أن الحصن الفلاني دخله النصارى إن شاء الله، وهذه الواقعة ذكرها الله في القرآن، بل هي الحادثة الشاهدة بأشراط الزمان، فإنا لله على هذه المصيبة التي هدّت قواعد المسلمين، وأبقت في قلوبهم حسرة إلى يوم الدين). فلما وصل الكتاب إلى المأمون بن ذي النون ضحك حتى وقع على الأرض، فكتب خطاباً رداً على ابن حُريز قال فيه (لقد عهدناك منتقياً لأمورك، نفاذاً لصغيرك وكبيرك، فكيف جاز عليك أمر هذا الكاتب الأبله الجلف، وأسندت إليه الكتاب عنك دون أن تطلع عليه، وقد علمت أن عنوان الرجل كتابه، ورائد عقله خطابه، ولا أدري من أي طين أتعجب، هل من تعليقه إن شاء الله تعالى بالماضي؟ أو ما خفي عليه من شأن الحصن الذي لا يعدو كونه صخرة لا ماء ولا مرعى لا يعبره إلا لص فاجر، أو قاطع طريق غير متظاهر، حراسه لا يتجاوزون الخمسين، لا يرون خبز البر عندهم إلا بعد سنين، باعه أحدهم بعشرين ديناراً) إلخ.
ولكن ابن حُريز لم يأبه بما قال المأمون بن ذي النون وأخذ في الدفاع عن صاحبه رغم تغفله، ولم يستبدله أو يؤنبه، وإنما دافع عنه بمبررات تتماشى مع هواه، وتزين في نفس غيره شائنة صاحبه. فتغليب الهوى، والصد عن ذوي النهى يمكن تبريره بأيسر طريق. ومما قال ابن حريز مدافعاً عن صاحبه رغم سقطاته: (إن المذكور ممن له حُرمة قديمة، نعتبه عن أن يمت بسواها، وخدمة محمودة أولاها وأخراها، ولسنا ممن اتسعت مملكته، وعظمت حضرته، فنحتاج إلى انتقاء الكتاب، والتحفظ في الخطاب، وإنما نحن حراس ثغور، وكتاب كتائب لا سطور، وإن كان الكاتب المذكور لا يحسن فيما يلقيه على القلم، فإنه يحسن كيف يصنع في مواطن الكرم، له الوفاء الذي تحدث به فلان وفلان، بل سارت بشأنه في أقصى البلاد الركبان، وليس ذلك بقدح عندنا فيه، بل زاده لكونه دالاً على صحة الباطن والسذاجة في الإكرام والتنويه).
هكذا كان غباء الكاتب دال على صحة السريرة ولهذا فقد احتفظ به ابن حريز كاتباً لديه. ويبدو أن للمغفلين في ذلك الزمان وربما في غيره من الأزمان مكان، وعلى ذوي النهى أن يظهروا التغفيل حتى يفوزوا بما فاز به عبدالحميد بن لاطون.
وقصة أخرى من قصص أولئك الأندلسيين وقعت للأمير منذر ووالده الأمير عبدالرحمن الأوسط، فعبد الرحمن الأوسط، لين المعشر حسن الخلق، متواضع، بينما ابنه المنذر، سيئ الخلق في أول أمره كثير الإصغاء إلى أقوال الوشاة، مفرط القلق مما يقال في جانبه، معاقباً في ذلك من يقدر على معاقبته.
وقال له أبوه يوماً: إن فيك لتيهاً مفرطاً، فقال له: حقّ لفرع أنت أصله أن يعلو، فقال له: يا بني، إن العيون تمجّ التيّاه، والقلوب تنفر عنه، فقال: يا أبي، لي من العز والنسب وعلو السلطان ما يحمل على ذلك، وإني لم أر العيون إلا مقبلة عليّ، ولا الأسماع إلا مصغية إليّ، وإن لهذا السلطان رونقاً يكدره التبذل، وعلواً يخفضه الانبساط، ولا يشرفه ويصونه إلا التيه والانقباض، وإن هؤلاء الأنذال لهم ميزان يسبرون به الرجل منا، فإن رأوه راجحاً عرفوا له قدر رجاحته، وإن رأوه ناقصاً عاملوه بنقصه، وصيّروا تواضعه صغراً، وتخضعه خسّة، فقال له أبوه، لله أنت! فابق وما رأيت.
وأقول: لست أدري أأعجب من المنذر أم من أبيه! أفلا يعلم المنذر أن عيون الناس إليه مقبلة وهي مرغمة، وأسماعهم إليه مصغية، وهي ساخطة، وإقبال العيون وإصغاء الأسماع لا تعني بحال تمام الرضا عند ضوي النهى، لكن كثيراً ما يكون الإقبال والإصغاء للمكان وليس لصاحب المكان، ولو زالت مكانته لمالت العيون عنه، وصمت الآذان منه، إلا إذا كان صاحب معرفٍ في فعله، وطيب الخلق في سلوكه وسَمْتِهِ، فالناس لديها ميزان تقدر به الإنسان، لكن ناتجه ليس بالضرورة ظاهرا وإنما هو باطن يخرج إن أتيح له الخروج والناس شهداء الله في أرضه.
وأعجب من والده كيف يستحسن مقولته، يبقيه على رأيه، وكأنه يساعده في تيهه ويدفعه إلى المزيد من سوء خلقه.
لم يكن المنذر على صواب، وإن أحسن نسج الجواب، ولم يكن التيه يوماً متفقاً مع المكانة الاجتماعية وإنما تملك القلوب بحسن الخلق، وطيب النفس، والسعي بالخير، ولماذا لا يتواضع وقد أعطاه الله، ولم يكن الانبساط يخفض عالياً بل يرفع صاحبه إلى منزلة عالية أمام ربه أولاً، وفي نفوس البشر ثانياً، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
من اليسير أن يجد المرء مبرراً لهواه، وهذا شأنه، لكن إذا كان ذلك الهوى يرتبط بالتعامل مع الناس، أو يؤثر على مصالحهم فقد تعدى أذاه إلى سواه، وهذا ما لا يحسن بذي العقل فعله حتى وإن أبدى بعض المحتاجين القبول مرغمين.