عندما يكون الحديث عن صحة الطفل فإن ذلك يشبه بيع الماء في حارة السقائين. فإن معالي وزير الصحة هو نفسه جراح أطفال ووكيل الوزارة للشؤون التنفيذية طبيب أطفال وكذلك الوكيل المساعد للطب العلاجي.
ربما تكون هذه مصادفة حقا وعلى أي حال فإنها تبعث على التفاؤل بمستقبل خدمات صحة الطفل في المملكة. ولكن عقد المؤتمر العالمي لصحة الطفل في رحاب مدينة الملك فهد الطبية الذي بدأ يوم الأحد الثاني من شهر صفر 1431هـ هو حدث هام يثير الرغبة في الحديث عن صحة الطفل السعودي خاصة أن مثل هذه المؤتمرات ليست كثيرة وعلى قدر ما أتذكر فقد انعقدت ندوة لصحة الطفل في الطائف قبل عشرين عاماً ومؤتمر لصحة الطفل في الرياض قبل بضعة أعوام. في العادة نحن نهتم بوزن جسم الطفل عند الولادة ثم في مراحل النمو المختلفة لكن وزنه في المجتمع لا يقل أهمية.
فهذه بيانات مصلحة الإحصاءات العامة لعام 1429هـ تنبؤنا أن نسبة الأطفال السعوديين من يوم الولادة إلى سن الرابعة عشرة تبلغ 32% من بين (18) مليون مواطن سعودي أي ثلث السكان السعوديين.
وحسب الكتاب الإحصائي لوزارة الصحة لعام 1429هـ فإن زيارات الأطفال تمثل 33 %من مجموع زيارات المراجعين للعيادات العامة بالمراكز الصحية التابعة لوزارة الصحة. هذا الوزن الثقيل كان له تأثير في النظام الصحي بالمملكة.
ونلاحظ ذلك في خدمات صحة الطفل منذ النشأة الأولى في بطون الأمهات حتى بداية سن المراهقة. على سبيل المثال في برامج رعاية الأمومة والطفولة وخدمات التوليد. وبرامج التحصين الموسع ضد الأمراض، مكافحة الإسهال الكشف المبكر لحديثي الولادة، مستشفيات الأطفال مستشفى الملك فهد لسرطان الأطفال برنامج مكافحة العنف الأسري اللجنة الوطنية للطفولة برامج الزمالة السعودية لطب الأطفال.
وقد بلغ عدد الأطباء المتخصصين في طب الأطفال في جميع القطاعات الصحية بالمملكة (4000) طبيب أي ما يقارب طبيب أخصائي أطفال واحد لكل (1500) طفل، وتبلغ نسبة السعوديين منهم 27%.
ومن صور الاهتمام بصحة الطفل تمويل وتشجيع إجراء البحوث عن المشكلات الصحية لدى الأطفال. وقد شملت هذه البحوث قضايا متعددة.
وكان لنتائج بعضها تأثير عميق على برامج العناية بصحة الطفل نذكر منها بصفة خاصة دراسة حالة التحصين لدى الأطفال في السنوات الأخيرة من التسعينات الهجرية التي قادت نتائجها إلى صدور القرار السامي بعدم صرف شهادات الميلاد إلا بعد اكتمال التطعيمات الأساسية ثم دراسة انتشار الالتهاب الكبدي بالفيروس (ب) لدى الأطفال في عام 1408هـ. واليوم تبلغ نسبة التغطية بالتحصين الموسع 97% من الأطفال المستهدفين، وانخفضت معدلات الإصابة بأمراض الطفولة المعدية إلى أدنى مستوي وبعضها تلاشى مثل مرض شلل الأطفال وانخفض معدل انتشار الالتهاب الكبدي بالفيروس (ب) من (6.7) لكل مائة ألف عام 1408هـ إلى (0.3) لكل مائة إلف عام 1418هـ وانخفض معدل وفيات الأطفال الرضع من 69 بالألف عام 1402هـ إلى 17 في الألف عام 1429هـ.
ومن الأبحاث الرائدة في مجال صحة الطفل بحث معدل انتشار نقص هرمون الغدة الدرقية لحديثي الولادة الذي برهن على جدوى تنفيذ برنامج للكشف ومن ثم العلاج المبكر للأمراض الاستقلابية بحيث أصبح الآن برنامجا معتمدا بوزارة الصحة يشرف على تنفيذه مركز الأمير سلمان لأبحاث الإعاقة.
ولم تكن الأبحاث مقصورة على الأمراض والمشكلات الصحية بل عالج بعضها وضع الأطفال الأصحاء.
ولعل من أهمها ذلك البحث الذي أجري قبل ثلاثة أعوام على المستوى الوطني لتحديد معايير النمو القياسية لدى الأطفال السعوديين من حيث الطول والوزن وحجم الرأس وتوصلت إلى معايير مرجعية وطنية تستخدم لمتابعة نمو الأطفال وتقاس عليها انحرافات النمو والحالة الصحية. واعتمدت الجمعية السعودية لطب الأطفال ومجلس الخدمات الصحية هذه المعايير.
ومع أن هذه الأبحاث التي أشرت إليها هي للأخذ على سبيل المثال وليس الحصر، إلا أنه لا يزال هناك احتياج كبير لزيادة الاهتمام بصحة الطفل ومن خلال البحث العلمي ولكي نقدر هذا الاحتياج يكفي أن نتذكر أن معدل وفيات الأطفال الرضع في المملكة يبلغ (17) في الألف في حين أنه في كل الدول المتقدمة أقل من نصف هذا المعدل.
إن الأبحاث تأتي وتروح ثم تُنسى إذا انتهى الغرض الآني من إجرائها، فإذا لم يتواصل الاهتمام بها تضيع النتائج والمعارف التي تمخضت عنها سوى. ذلك أنه لا يتوصل بحث بمفرده إلى الخبر اليقين وإنما يأتي بحصيلة معرفية يبني عليها أبحاث ودراسات أخرى ذات صلة.
وهكذا تتراكم المعارف لتصير قواعد معلومات يرجع إليها عند كل بحث جديد لانتهاج سياسة أو وضع خطه صحية، هذا التراكم المعرفي يحتاج لرعاية دائمة لا تتحقق إلا عن طريق مؤسسة بحثية متخصصة في مجال صحة الطفل وقادرة على استيعاب هذه المعارف وإجراء الأبحاث التي تنتجها، خاصة منها ما يتعلق بالجوانب الوقائية والوبائية وتقويم الأحوال الصحية على مستوى المجتمع.
لقد سبق أن قدم معالي الدكتور عبد الرحمن السويلم -عضو مجلس الشورى الآن، وهو نفسه طبيب أطفال وصاحب خبرة طويلة في ممارسة الطب ورسم السياسات الصحية، اقتراحا إلى معالي وزير الصحة السابق بإنشاء معهد لصحة الطفل في المملكة، وذلك قبل ما يقرب من عامين على ما أظن، ورحب معاليه بالاقتراح ثم أحيل إلى إحدى اللجان المختصة لدراسته، ثم لم نسمع عنه شيئا.
ولعل الوزارة تتبنى هذا الاقتراح فإن الوقت مناسب والظرف ملح لتأسيس معهد لصحة الطفل في المملكة خاصة أن وزارة الصحة تتحمل العبء الأكبر في رعاية صحة الأطفال من خلال برامجها الوقائية ومراكز الرعاية الصحية الأولية التي تناهز الألفي مركز صحي وتساندها في ذلك مستشفيات وأقسام الأطفال التابعة لها ومستشفيات وأقسام وعيادات الأطفال بالجهات الصحية الأخرى، وتتوفر لدى الوزارة البيئة العلمية والمهنية المناسبة لهذا المعهد في مدينة الملك فهد الطبية التي يوجد بها كلية للطب ومستشفى للأطفال، مما يؤهلها لأن تكون مقرا لهذا المعهد. إن أطفالنا جديرون بهذا، وصحتهم هي أغلى أمانينا.