التعليم العالي باعتباره نظاما فرعيا اجتماعيا يؤثر ويتأثر بكل المتغيرات الوطنية والدولية ويتفاعل معها بالشكل الذي يضمن استمراريته ووجوده محلياً وإقليميا ودولياً، ونظراً للتغير العالمي المعروف طرح ومنذ زمن سؤال هام - في نظري- وأعتقد أنه ما زال قائماً (ترى: هل سيكون التعليم العالي بما يملكه من إمكانات وما يعصف به من مشكلات واختناقات ومواطن ضعف متعددة قادراً في يوم من الأيام على تغيير سياساته وأهدافه ومحتواه وطرائقه وإدارته ليرسم لنفسه موقعاً تنافسياً ملائماً في خضم العولمة والتدويل؟).
لقد كانت الدلائل -آنذاك- تشير إلى أن التعليم العالي سيتأثر بشكل كبير بإفرازات ظاهرة العولمة التي ستفرض على الجميع ضرورة إعادة صياغة محتوى المناهج وطرق التدريس ونوعية الإدارة وآلية التمويل؛ إذ لن تكون المناهج بالضرورة ملائمة للسياقات الاجتماعية والثقافية الوطنية، بل لابد لها أن تستجيب وتتلاءم مع السياق العالمي ومتطلباته؛ فالخريج لن يتنافس على وظائف بمواصفات الأسواق المحلية بل الأسواق العالمية.
كان التخوف ومنذ ذلك الحين ولا زال كبيراً، والتحديات متعددة، ولعل من بين التحديات ذات العلاقة المباشرة بمؤسسات التعليم العالي «التحدي الثقافي» إذ إن المحافظة على التعددية الثقافية وتنوعها تتطلب وجود نماذج وأنماط ثقافية قوية وقادرة على مواجهة ثقافة العولمة التي تمتلك آليات وقوى قادرة على الاختراق والتأثير، فهل لدى جامعاتنا السعودية مورد ثقافي متكامل نستطيع أن نراهن عليه وأن نواجه به النموذج الغربي الأقوى والأكثر انتشاراً في عالمنا المعاصر؟!.
لقد أكد الباحثون والمنظرون من قبل على وجوب قيام التعليم العالي بدور فاعل في المحافظة على الثقافة والهوية الوطنية ذات الصبغة العربية والإسلامية وتطويرهما وترسيخهما من خلال المناهج والأنشطة التي تحتضنها جامعاتنا السعودية، كما تمت التوصية، وفي أكثر من مناسبة، على أنه لابد من أن يكون لهذه المؤسسات دور في تحصين الثقافة والمجتمع مما يمكن أن يسمَّى بالغزو الثقافي للنموذج الذي تسعى الدول الكبرى ذات السيادة السياسية لفرضه، فهل فعلت هذه التوصية في جميع جامعاتنا السعودية وبالشكل الذي يحقق الهدف الوطني المنشود؟
إن ما طرحته في ثنايا الحلقة الماضية من إشكاليات يعيد نفسه هنا، فكيف للجامعة أن تخرج جيلاً من أبناء هذا الوطن المعطاء يملكون مقومات الشخصية العالمية الواعية والمنفتحة والمتحضرة والمتقنة لفن التواصل مع الآخر لغة وثقافة وسلوكاً والقادرة على استخدام التقنية التي تقصر المسافات وتقلل الجهد وتوفر الوقت، وفي ذات الوقت المحافظ على هويته والمعتز بثقافته وتاريخه وتراث أمته الفكري والعلمي، الفاهم لدينه فهماً وسطياً صحيحاً.
إن هذا الهم التكويني ليس مسؤولية تخصص دون آخر ولا هو من نافلة الأعمال الملقاة على عاتق جامعاتنا السعودية، بل هو ركيزة أساس من ركائز التكوين والبناء لأبنائنا الطلاب، وذلك حتى نضمن الجمع بين العالمية والخصوصية وتتفاعل دوائر الحوار انطلاقاً من الذاتية ووصولاً للدولية- هذا المشروع الملكي الرائع والرائد والذي أعلنه ودعمه ورعاه ونال قصب السبق فيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله ورعاه.
إن الانكفاء على الذات، أو في المقابل، الارتماء في أحضان ثقافة العولمة سيلغي الحاجة للحديث عن الحوار بين الثقافات، ولن يكون في قاموسنا الإيمان بتعدد الثقافات، ولن نحتاج إلى فتح النوافذ وستظل أبوابنا موصدة في وجه العالم، إن كان ذلك ممكناً ولو من باب الخيال.
إن جامعاتنا السعودية هي المسؤول الأول عن بناء جسور التواصل الثقافي بين الطالب وثقافته عبر جذورها التاريخية العميقة، كما أنها هي من يعرفه على الآخر بكل تفاصيله وبميزان العدل ?وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..?، والعدل في القول وعدم التطفيف في النظرة والتصور هو عدل في الحكم وبه تحقن الدماء وينتهج النهج الصحيح ونسلم أفراداً وجماعات من ويلات التطرف والغلو والإرهاب، وأنا شخصياً متفائل وبشكل كبير في أن يضع لنا مشروع الإستراتيجية العربية للأمن الفكري الذي أعده كرسي الأمير نايف لدراسات الأمن الفكري في جامعة الملك سعود النقاط على الحروف..
وإلى لقاء.. والسلام