الجزيرة - الاقتصاد
في سبتمبر من العام 2009م، أطلقت منظمة مؤتمر الأمم المتحدة لتجارة والتنمية - الأونكتاد - تقريرها السنوي «تقرير الاستثمار العالمي 2009». تضمن التقرير عرضاً لأداء الاستثمار في العالم خلال العام 2008م، ذلك العام الذي شهد تفاقماً للأزمة المالية العالمية، وشهد في الربع الأخير منه انخفاضاً كبيراً في أسعار البترول. أوضح التقرير أن تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة قد بلغت نحو 1.7 تريليون دولار في عام 2008م مقارنة بنحو 2 تريليون دولار في عام 2007م، أي أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة قد انخفضت بحوالي 15 في المائة في العام 2008م. وقدم التقرير إحصاءات مفصلة عن تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى دول العالم المختلفة، وطبقاً لبيانات التقرير احتلت المملكة المركز الرابع عشر عالمياً في قائمة الدول الأكثر جذباّ للاستثمارات الأجنبية المباشرة في العالم. وقد قوبلت هذه النتائج بارتياح كبير في جميع الأوساط بالمملكة، وبصفة خاصة في الهيئة العامة للاستثمار، لأن ذلك كان بمثابة البشارة بأن تحقيق أهداف مبادرة 10×10 قد صار في مرمى البصر.
وتعكس تقارير الاستثمار العالمي، التي صدرت مؤخراً، اضطراد النجاح الذي ظلت تحرزه المملكة في مجال جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، فقد تقدمت المملكة من المركز العشرين للدول الأكثر جذباً للاستثمارات على نطاق العالم، عام 2006م، واحتلت المركز الثامن عشر، خلال العام 2007م، ثم المركز الرابع عشر في عام 2008م. ويعزى هذا التقدم، ضمن عوامل أخرى، إلى التحسين المستمر في مناخ الاستثمار في المملكة.
ولكن ما هي منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية -الأونكتاد- وما هو تقرير الاستثمار العالمي، وما هي تفاصيل هذا الإنجاز الذي تحقق مقارناً بالدول الأخرى؟ هذه بعض التساؤلات التي قد تطوف بذهن القارئ، وسنحاول في الفقرات التالية تقديم إجابات لها.
مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)
تأسست الأمم المتحدة كمنظمة دولية في العام 1945م، عقب الحرب العالمية الثانية، بواسطة 51 بلداً أبدت التزامها بمجموعة من الأهداف أبرزها صون السلم والأمن الدوليين، وتنمية العلاقات الودية بين الأمم، وتعزيز التقدم الاجتماعي، وتحسين مستويات المعيشة، وحقوق الإنسان. وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة قد اشتهرت بعملها في مجالات حفظ السلام، ومنع النزاعات، والمساعدة الإنسانية، إلا أن هناك العديد من المجالات الأخرى التي تعمل فيها الأمم المتحدة، وتؤثر من خلالها على سكان العالم بدرجة كبيرة، وبصفة خاصة من خلال منظومتها (الوكالات المتخصصة والصناديق والبرامج). وتضم هذه المجموعة المؤثرة منظمة «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية»، والتي تعرف اختصاراً بالأونكتاد.
تأسست منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في عام 1964م، وتمثلت أهم أهدافها في عملية اندماج الدول النامية في الاقتصاد الدولي. ومن أهداف الأونكتاد الأخرى البارزة، تقديم المساعدة المطلوبة لصياغة الرؤى والسياسات الوطنية، مع التركيز باستمرار على أن السياسات الوطنية، والمبادرات الخارجية يتكاملان مع بعضهما البعض لإحداث التنمية المستدامة. لقد تطورت المنظمة عبر السنوات حتى أصبحت مرجعاً عالمياً قائم على المعرفة والبيانات الموثقة. وفي هذا السياق تعتبر الإصدارة «تقرير الاستثمار العالمي»، التي تصدر عن المنظمة، أحد أهم المراجع العالمية ذات العلاقة بالاستثمار.
تقرير الاستثمار العالمي (World Investment Report)
هو تقرير سنوي يصدر عن الأونكتاد، وفيما يلي بعض المعلومات عنه:
- يصدر التقرير سنوياً منذ عام 1991م.
- يغطي التقرير آخر التطورات المتعلقة بالاستثمار المباشر في العالم.
- يتم في كل سنة اختيار أحد الموضوعات ذات العلاقة بالاستثمار ويتم تحليلها بعمق في التقرير. وعلى سبيل المثال ناقش تقرير الاستثمار 2008 موضوع الشركات متعددة الجنسيات وتحديات البنية التحتية.
وتشتمل كل نسخة من التقرير على أبواب ثابتة تناقش الجوانب التالية:
- تحليل التطورات الراهنة بالنسبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
- قائمة مرتبة لأكبر الشركات ذات الجنسيات المتعددة في العالم.
- تقديم تحليلات معمقة للموضوع الذي تم اختياره.
- تحليل السياسات الاستثمارية، على نطاق العالم، وإبداء التوصيات حيالها.
- ملحق إحصائي يحتوي على بيانات تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة والأرصدة لحوالي 196 اقتصاداً عالمياً.
ويتم تحليل أداء الاستثمار في دول العالم بعد تقسيمها إلى مجموعات حسب الموقع الجغرافي، وطبقاً لمستوى تطورها. فالعالم مقسم إلى مجموعتين رئيسيتين هي:
1- الاقتصادات المتطورة (Developed economies) وتشمل:
- دول أوروبا مقسمة بين دول الاتحاد الأوروبي، ودول أوروبي ة متطورة أخرى منها سويسرا، والنرويج.
- دول في أمريكا الشمالية.
- ودول متطورة أخرى مثل استراليا واليابان.
2- الاقتصادات النامية (Developing economies) وتشمل:
- دول إفريقيا مقسمة إلى دول شمال إفريقيا وباقي الدول الإفريقية.
- أمريكا اللاتينية مقسمة إلى دول أمريكا الجنوبية، أمريكا الوسطى، دول الكاريبي.
- دول آسيا والآسيان، وتقسم دول آسيا إلى دول غرب آسيا، جنوب، شرق، وجنوب شرق آسيا.
- جنوب شرق أوروبا ودول اتحاد الدول المستقلة.
وتنتمي المملكة وفقاً لتقسيمات التقرير أعلاه، إلى دول غرب آسيا، والتي تضم إلى جانب المملكة الدول التالية: البحرين، العراق، الأردن، الكويت، لبنان، عمان، قطر، سوريا، تركيا، الإمارات العربية المتحدة، اليمن.
منطقة غرب آسيا
يعكس تقرير الاستثمار العالمي (WIR) أن التدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة الداخلة لدول غرب آسيا في عام 2008م، قد ارتفعت للسنة السادسة على التوالي، ولقد كان ذلك بدرجة كبيرة، بسبب الارتفاع الكبير في تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي جذبتها المملكة العربية السعودية، التي تمكنت من جذب استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة بينما تفاوتت أحجام التدفقات في بقية دول غرب آسيا. ولقد اتجهت التدفقات الداخلة، بصفة خاصة، نحو قطاعات العقار، البتروكيماويات، تكرير البترول، التشييد والبناء، والتجارة. وحتى الربع الأخير من عام 2008م، كانت التدفقات مدعومة بالارتفاع المستمر في أسعار البترول، والنمو الاقتصادي القوي لدول المنطقة، وانتشار المشروعات الضخمة، ولكن الأزمة المالية العالمية أثرت بشكل كبير على تمويل المشروعات الضخمة، وأدت إلى توقف بعضها، ومن المحتمل أن يكون ذلك قد انعكس سلباً على حجم التدفقات في عام 2009م. كذلك يبين تقرير الاستثمار العالمي (WIR) أن التدفقات الاستثمارية الخارجة من المنطقة، وكذلك نشاط الاندماج والاستحواذ على الشركات قد انخفض بشكل كبير في عام 2008م. ونتيجة للأزمة المالية العالمية فقد صار المستثمرون أكثر تحفظاً وأكثر ميلاً نحو تفادي المخاطر، وقد فضل كثير من المستثمرين توجيه أنشطتهم نحو الاستثمارات الوطنية في اقتصادات بلدانهم.
ارتفعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة الداخلة لمنطقة غرب آسيا بنسبة 16%، لتصل إلى 90 مليار دولار، في عام 2008م. وارتفعت حصة المنطقة من إجمالي التدفقات الاستثمارية، وبلغت 15% في عام 2008م، مقارنة بنسبة 3% فقط في عام 2002م. وعلى مدى السنوات العديدة الماضية، كانت التدفقات الاستثمارية الداخلة في المنطقة، تتجه نحو دول معينة هي بالتحديد، المملكة العربية السعودية، تركيا، الإمارات العربية المتحدة. وقد بلغت حصة هذه الدول (المملكة، تركيا، الإمارات) حوالي 75% من إجمالي التدفقات الداخلة المتراكمة خلال الفترة من 2003- 2007، وبلغت هذه النسبة 78% في عام 2008م. كما أن هذه الدول تمثل الدول الثلاث الأكبر استحواذاً على رصيد الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث بلغت نسبة ما يملكون مجتمعين، من هذه الأرصدة في عام 2008م، حوالي 70% من إجمالي أرصدة الاستثمار في المنطقة.
أدى ارتفاع التدفقات الاستثمارية المباشرة إلى المملكة في عام 2008م، والتي بلغت حوالي 38.2 مليار دولار، بنسبة زيادة بلغت 57% مقارنة بالسنة التي سبقت، إلى ارتفاع قيمة تدفقات الاستثمارات إلى منطقة غرب آسيا. ولقد كان لقطاع البتروكيماويات، وتكرير النفط، النصيب الأكبر من هذه التدفقات، فقد بلغت قيمة ما استحوذ عليه هذا القطاع 12 مليار دولار بزيادة قدرها 57% عن السنة التي سبقت، كما ارتفعت الاستثمارات في قطاع العقار أربعة أضعاف ليبلغ حجم الاستثمارات الداخلة 7.9 مليارات دولار.
لقد جذبت المملكة العربية السعودية ما نسبته 42% من إجمالي الاستثمارات الداخلة للمنطقة، معززة بذلك موقفها كأكبر دولة مستقبلة للاستثمارات في المنطقة. أما تركيا البلد الثاني الأكثر استقبالاً للاستثمارات الأجنبية المباشرة في المنطقة، بعد المملكة، فقد انخفضت التدفقات الداخلة إليه بنسبة 17% ووصلت إلى 18 مليار دولار، وكانت تدفقات الاستثمارات إلى تركيا قد وصلت إلى أعلى مستوياتها في عام 2007 بفضل عدد من صفقات الاندماج والاستحواذ في القطاع المالي. أما بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة، فقد انخفضت التدفقات الاستثمارية الداخلة إليها في عام 2008م، بنسبة 3% إلى مستوى 14 مليار دولار، متأثرة في ذلك بالأزمة المالية العالمية، والتي ظهر أثرها في الربع الأخير من عام 2008م، خاصة على قطاع السياحة، والعقارات، والبنوك في أمارة دبي.
وبالنسبة لباقي دول المنطقة، فقد شهدت دولة قطر ارتفاعاً في التدفقات الاستثمارية المباشرة بلغت 43%، وكان معظم تلك الاستثمارات في قطاع الغاز الطبيعي المسال (LPG)، الطاقة، المياه، والاتصالات. أما لبنان فقد ارتفعت قيمة التدفقات الاستثمارية الداخلة إليه بنسبة 32%، مدفوعة بصفة خاصة بالاستثمارات في قطاع العقار. وبالنسبة للجمهورية السورية فقد تمكنت من جذب حوالي 2 مليار دولار في عام 2008م، محققة نسبة زيادة عن العام السابق بلغت 70%، ويعود هذا إلى سياسة الانفتاح التي طبقتها سوريا مؤخراً في عدد من القطاعات الاقتصادية. وارتفعت التدفقات الاستثمارية الداخلة بنسب طفيفة في كل من البحرين، والعراق، وفلسطين، وانخفضت في كل من الكويت، عمان، واليمن.
النظرة المستقبلية
حتى نهاية الربع الثالث من عام 2008م، كان ارتفاع أسعار البترول هو الأساس للنمو الاقتصادي الذي شهدته منطقة غرب آسيا، والداعم الرئيس لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إليها. وبسبب السيولة العالية التي توفرت لها، انخرطت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في إنشاء العديد من المشروعات الضخمة في العديد من القطاعات الاقتصادية، مثل إنشاء مصافي البترول، ومجمعات الصناعات البتروكيماوية، الكهرباء والمياه، الاتصالات، العقار، السياحة. ولقد ازداد اعتماد دول مجلس التعاون على الاستثمارات الأجنبية المباشرة ليس بسبب ما توفره من تمويل، ولكن بحثاً عن التقنية المتطورة، والأساليب الإدارية الحديثة، والخبرات.
لقد أدى ارتفاع مستوى الدخل، الناجم من ارتفاع أسعار البترول، إلى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة حتى للدول التي لا تملك موارد بترولية. وذلك نتيجة للتالي:
- توفرت فوائض مالية عند الدول المصدرة للبترول يمكن استخدامها في استثمارات إقليمية.
- وفرت اقتصادات الدول البترولية فرصاً وظيفية أكثر للعمالة الإقليمية الذين أصبح بمقدورهم تحويل مبالغ أكبر لبلدانهم. هذه العوامل زادت من جاذبية هذه الدول في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
وفي أعقاب الانخفاض الكبير الذي لحق بالأسعار العالمية للبترول، وتواتر التقييمات المتشائمة عن تدهور الاقتصاد العالمي في أواخر عام 2008م، تراجعت موجة التفاؤل التي كانت سائدة خلال السنوات الست السابقة بخصوص الازدهار الاقتصادي للمنطقة. لقد واجهت كثير من دول غرب آسيا في عام 2009م عجزاً في الموازنات العامة، وفي الحسابات الجارية، وتوقفت بعض مشروعات التنمية، أو تأثرت بشكل كبير، بسبب أزمة التمويل التي أطبقت على الاقتصاد العالمي. وتراجعت أعداد البنوك العالمية التي كانت تمنح التسهيلات الائتمانية، وبالتالي تأجل تنفيذ بعضاً من المشروعات الضخمة في قطاع البترول والغاز، والبنى التحتية. أما الدول التي لا تملك موارد بترولية، أو أنها تملك كميات متواضعة من هذا المورد، فقد واجهت ظروفاً اقتصادية أكثر سوءاً، وعجزت عن توفير موارد إضافية لتمويل استثمارات مباشرة إقليمية.
وبينما أظهرت حركة التدفقات للاستثمارات الأجنبية المباشرة مرونة كبيرة في مواجهة التحديات التي اعترضتها في عام 2008م، نجد أن مكون الاندماج والتملك (M AND A)، قد انخفض بنسبة 36%، ويرجع هذا إلى أن نسبة التملك من قبل الشركات العالمية المتعددة الجنسيات قد انحسر بنسبة 71% لينخفض إلى ما قيمته (4.2) مليارات دولار. وانحصرت معظم تعاقدات البيع عبر الحدود في دولة تركيا، حيث كان معظمها نتيجة لسياسات التخصيص. وتواصل الانخفاض في معدلات التعاقدات المرتبطة بالاندماج والتملك في عام 2009م، ما أدى إلى نتائج سالبة على تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
خاتمة
لم تبلغ الدول المتسابقة بعد خط النهاية في مضمار السباق نحو أفضل بيئة استثمارية، ولا زالت المملكة تتقدم، ولكن المنافسة تشتد وتزداد اشتعالاً كلما اقترب المتسابق نحو المقدمة، وهذه هي طبيعة التنافس. وللمحافظة على ما تحقق، وإنجاز المزيد، لا بد من التمسك بالأساسيات، المتمثلة في جعل تحسين التنافسية هماً يشارك فيه الجميع، ويسهم فيه الجميع، وأن مهمة الهيئة الرئيسية هي تنسيق تلك الجهود، وتوجيهها نحو تحقيق الهدف الذي تعبر عنه العبارة المفتاحية 10×10.