في مقالات سابقة أكدت على أهمية الترجمة وتعليم اللغات لرجال الأمن في المملكة العربية السعودية ودور اللغة في تعزيز المفاهيم الأمنية وعلى رأسها الأمن الفكري. في هذا المقال سأتناول قضيتين مهمتين وهما: (1) دور اللغة في تعزيز فهم وإدراك المقيمين للتعليمات الأمنية؛ و(2) دور الترجمة في تسريب الأسرار والمعلومات الأمنية الحساسة.
كنت أقف عند أحدى أشارات المرور في مدينة الرياض عندما تقدم نحوي أحد رجال الأمن الشباب ومعه بعض المطويات المرورية التوعوية لتوزيعها على سائقي السيارات. استلمتها منه ولاحظت بسرعة نها مكتوبة بالعربية الفصحى فقط، فسألته هل يوجد مثل هذه المطويات مكتوبة بلغات أخرى، فقال «لا». فقلت له هل تعتقد أن السائقين الآخرين وهم من جنسيات ليست اللغة العربية لغتهم أن يفهموا ما تحتويه هذه المطويات؟ هز رأسه وقال (لا) وذهب يوزعها على السائقين ومعظمهم من الأجانب الذين ربما يتحدثون بعض اللغة العربية ولكنهم حتما لا يستطيعون القراءة. يتميز مجتمعنا بأنه متعدد الثقافات والأعراق والألسنة. لذلك لأبد من استخدام لغة أو أكثر من جانب مؤسساتنا الأمنية عند مخاطبتها للمقيمين على أراضي المملكة العربية السعودية. إن استخدام لغة واحدة وهي اللغة العربية الفصحى في توعية المقيمين الذين لا يتقنون اللغة العربية تحدثا وكتابة لن يساعد إطلاقا على تحقيق رسالة وزارة الداخلية في تحقيق الأمن بمفهومه الشامل. ولكي أبين مدى أهمية وجود لغة أخرى شائعة الاستعمال كاللغة الإنجليزية أقدم تجربتي في دولتين أوروبيتين وهما إسبانيا واليونان. شاركت في مؤتمر في مدينة سانتيغو دي كومبستيلا الإسبانية عن اللغة الإنجليزية وتحمل الجامعة نفس اسم المدينة. لم أجد في هذه المدينة - بما فيها الحرم الجامعي - كلمة إنجليزية واحدة. بل إن سكانها لا يتحدثون اللغة الإنجليزية. وهو ما جعلني أجد صعوبة في التكيف مع هذه المدينة ولم أعرف إلا الشيء القليل عنها وجله عن طريق الإنترنت. وفي نفس السنة تقريبا شاركت في مؤتمر في مدينة أثينا باليونان، ووجدت الناس فيها يستخدمون اللغة الإنجليزية على نطاق واسع. بل أن أصحاب المهن البسيطة كسائقي الأجرة يتحدثون اللغة الإنجليزية بطلاقة يحسدون عليها. أضف إلى ذلك أن اللوحات والملصقات الموجودة في الشوارع مكتوبة باللغة الإنجليزية إلى جانب اللغة المحلية، وهو ما جعلني أتكيف مع واقع المدنية الاجتماعي والأمني بعكس المدينة الإسبانية التي دخلتها عالما وخرجت منها جاهلا.
ونحن في المملكة في أمس الحاجة لوجود لغة شائعة كاللغة الإنجليزية أو أكثر إلى جانب اللغة العربية يتم من خلالها توصيل الرسالة الأمنية لكل مواطن ومقيم بنفس المستوى والجودة. تعتبر المملكة قبلة العالم الإسلامي حيث يعتمر ويحج إليها سنويا الملايين من المسلمين الذين لا يستطيعون قراءة النصوص المكتوبة باللغة العربية وإن كانوا يستطيعون قراءة القران الكريم. كذلك تعتبر المملكة قبلة الباحثين عن الأعمال، ففيها يتواجد أكثر من 5 ملايين عامل غالبيتهم من دول غير عربية لا يتقنون سوى اللغة الإنجليزية ولغتهم الأم. هذا الواقع يستلزم قيام قطاعتنا الأمنية وعلى رأسها الأم الحاضنة وزارة الداخلية بدورها اللغوي الحتمي لتضمن وصول الرسالة الأمنية إلى أكبر شريحة من المقيمين على أراضي المملكة العربية السعودية. يمكن تحقيق ذلك من خلال استخدام اللغة الإنجليزية المبسطة إلى جانب اللغة العربية في المطويات المرورية والشرطية. كذلك يمكن بث برامج متلفزة بلغات عديدة تستهدف المقيمين لتوصيل التعليمات المرورية والأمنية المختلفة.
أما القضية الثانية فهي دور الترجمة في تسريب الأسرار والمعلومات الأمنية الحساسة. لقد لاحظت خلال تجربتي كمترجم متعاون مع بعض الجهات الخاصة قيام بعض الشركات الأجنبية التي تفوز بمشروعات أمنية مصدرها وزارة الداخلية بترجمة وثائق هذه المشروعات خارج المملكة أو في داخلها من خلال مكاتب تجارية خاصة لا تتوفر فيها السرية التي يجب أن تحيط هذه الوثائق الأمنية الحساسة. لا يكفي أن تقوم هذه الشركات بطلب خطاب من مكتب الترجمة المعني بالترجمة يذكر فيه أنه سيحافظ على سرية المعلومات الأمنية. إن قيام هذه الشركات الأجنبية بترجمة مشروعات وزارة الداخلية الحساسة والتي يحتوي معظمها على رسومات توضيحية لمباني سرية وخنادق على الحدود أمر في غاية الخطورة على أمن المملكة لو وقعت هذه الوثائق في أيدي المتربصين بأمن مملكتنا الحبيبة. ولعل وجود مثل هذا التسريب الأمني الخطير يؤكد ضرورة ما ناديت به في أكثر من مقال ومقام إلى إنشاء مركز للغات والترجمة الأمنية يعني بحاجة وزارة الداخلية وقطاعاتها من اللغات والترجمة. وأقترح أن تلزم وزارة الداخلية كافة الشركات الأجنبية بضرورة ترجمة وثائق المشروعات الأمنية داخل هذا المركز المقترح أو على الأقل داخل قسم الترجمة بالوزارة حتى قيام مثل هذا المركز المقترح والذي هو تحت الدراسة في الوزارة منذ سنتين.
mohammed@alhuqbani.com