مخاضات الأفكار لما تزل تدفع بالمذاهب والنظريات الشاذة أو المعقولة، وصراع المنتمين لإحقاق ما يعتقدون يحصد الأرواح ويحرق الممتلكات، ولأن الصراع من سُنن الحياة فإن الناجين من...
...غوائله يعودون لما فرغوا منه، وكأن الناس في دورة غذائية كل أمة طعام لأخرى، والحياة لا تحلو إلا بالتداول والتدافع ونسيان المآسي والآمال العريضة بالخلاص من كل مأزق، فالفقراء والمرضى والخائفون يُهَدْهِدهم الأمل ويُبلسمهم النسيان، ولا يكون الانتحار إلا مع القنوط واليأس والإحباط والتقعير والرؤية في أشلاء الهزائم.
ولولا الأمل لا انقطع الجهد والتفكير عند الصدمة الأولى، ولهذا جاء الإسلام داعياً وملحاً بالدعاء إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والثبات والتحيز أو التحرف وكل ذلك مؤذنٌ بتخطي اللحظات الحرجة، ومهيئ لجولة ثانية قد تحسم الموقف لصالح المهزوم، ومتى قطعنا بصحة ذلك كله أصبح بمقدورنا تلقي أقدارنا بالقبول والرضى والتحرف لإعادة المياه إلى مجاريها.
واليقينيات الكبرى قد لا يُسَلِّم لها الإنسان في لحظات المفاجأة ولربما يطول زمن الارتباك والتردد، ويمارس الإنسان أثناءه فعلاً لا يتوقعه الفاعل من نفسه بعد أن يفيق من أثر الصدمة.
ولعلنا نضرب الأمثال بموقف الصديق والفاروق رضي الله عنهما من نبأ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ نحن أمام إيمان يسبق العقل كما هو عند أبي بكر، وعقل يسبق الإيمان كما هو عند عمر بن الخطاب.
ولكل واحد من الخليفتين الراشدين نصيبه الوافر منهما، فالصديق فاق بإيمانه، وعمر فاق بعقله، واستطاع الإيمان ربط الجأش فيما لم يقدر العقل على تثبيط الانفعال، ومن ثم احتاج الموقف إلى تدخل خارجي لنقل المنفعل من أجواء الصدمة إلى أجواء التأمل والتسليم واستذكار ما غيبته الصدمة من النصوص القطعية الدلالة والثبوت.
وذلك ما فعله الصدِّيق حين دخل المسجد ونظر إلى عمر في لحظة ارتباك واهتياج من تأثير الصدمة، ولو أن الأمور تحكم بالعقل لكان أبو بكر أقرب إلى الانفجاع وفَقْد الصواب، ولنا أن نمتد بالشواهد إلى موقفهما من مواجهة المرتدين وتمرد حدثاء العهد بالكفر على شرائع الإسلام، والفارق الأقوى والذي لا يسلك الشيطان طريقاً يسلكه يذعن ويسلم في الحالين: حال القبول بموت الرسول، ومشروعية قتال المرتدين، فعمر مع الحق متى بدت بوادره ولا يعنيه الانتصار للرأي، وتلك سمة لو حضرت في الجدل بكل أنواعه لحققت الأمة الإسلامية انتصارات ساحقة على النفوس الأمارة بالسوء.
والراصد للحراك الأيديولوجي يقف على التعصب الأعمى وجاهزية المواقف، وترويج الكذب والخلط المتعمد بين السياسي والديني بشكل لا يدع مجالاً للحوار واحترام المرجعية النصية والشخصية.
وقراءة الخطابات المتناقضة والمسيسة لا يكفي معها الفهم المجرد من الملابسات والسياقات، فالمفكر قد يستوعب الحقائق والمفاهيم ولكنه لا يضرب بعضها ببعض ليقف على تقلبات الطقس والتنبؤات، وأخذ الاحتياطات على ضوء السياق والنسق والأحوال والنتائج واتجاهات الريح، فالاستيعاب المعرفي وحده لا يعني إلا إضافة أوعية علمية ك(الأقراص المدمجة) ولهذا خاض التربويون صراع المفاضلة بين الحفظ والفهم، وتفرقت السبل لكل الأطراف، ولو عرف المختصمون مآلات الحفظ والفهم ومدى تداخلهما لما اتسعت هوة الخلاف بينهما.
ولكيلا تتفرق بنا الشعاب أود الإشارة إلى موقف عارض تجلت فيه أهمية التنبؤات. كنت في مصر في صيف العام الماضي وفي كل صيف أُرلِمُّ بقاهرة المعز، وكنت مع أحد الأصدقاء في (مكتبة مدبولي) استعرض كعوب الكتب المعروضة، وامتد بنا الوقت وتشعبت الاهتمامات، وخرجت بعد كل هذه الساعات بثلاثة كتب، الأمر الذي أوغر صدر صاحبي، وكأني به لا يرى تناسباً بين الجهد والوقت الذي انفقتهما في التنقيب وهذه الحصيلة المزجاة ولأنه ضاق ذرعاً بهذا التصرف فإنه لم يجد بداً من العتاب الساخر والتمتمة بالمثل العامي: (تَوَلَّدَ أبَان وإلى سِحْبلَّة) غير أني بادرت بالقول: استعراض الكتب لا يقف عند حد الشراء. فما الذي خرجت به أنت، وقد قضيت الوقت كله في قراءة كتاب واحد مسترخياً على أريكة وسط المكتبة؟
لم أنتظر الإجابة فالطقس الفكري والسياسي في تقلبات عجيبة ليست محكومة بعقل ولا موجهة بإرادة، والمستقرئ لها يتخذ سبلا ووسائل للتأكد من سمة هذا التقلب ومدى خطورته على رتابة الحياة وسيرورتها المتصالحة مع كل الشرائح والأطياف، ومن خلال استعراض المعروض من الكتب وجدت الناشرين يلهثون وراء ثلاث قضايا:-
- الطائفية.
- السياسية.
- الإدارة.
وقد لا يكون مهماً جَسّ النبض السياسي بقدر الاهتمام بجس النبض الطائفي فالسياسة تعيش مع الإنسان منذ النشأة الأولى ثم هي الآن في الصدارة الإعلامية، وليس غريباً أن تعيش الحضور بكل شموليته والتهابه، ولكن الغرابة في نوعية الحضور لا في كثافته، وذلك مكمن الخطورة، أما الحضور الطائفي المخيف وإن كان ناتج الاضطراب السياسي فإنه مثير للخوف والفضول وملفت للنظر لأنه يوحي بمتغير (أيديولوجي) ولن يكون مخاضه سهلاً ولا ميسوراً، ومن المؤكد أنه سيجر المنطقة إلى بؤر الفتن العمياء، لقد تصدرت الكتب الطائفية واجهات العرض، والمؤسف أنها تشكل حرباً كلامية ملتهبة تفقد المصداقية والمعرفية والموضوعية لأنها لم تعالج بأقلام العلماء والمحققين والمؤرخين، وإنما عولجت بأقلام المتعصبين والإعلاميين والمرتزقة، وتناول الطائفية من خلال حراكها السياسي وتخطياتها عبر بوابات جديدة قد لا يعود عليها بالخير ولكنها ستترك آثاراً سيئة في كافة المشاهد، وقد تتحول الحرب الباردة إلى حرب ضروس، وهي قد تحولت بالفعل في بعض المناطق والحروب الطائفية والأهلية تتسم بالهمجية والقتل المجاني.
لقد جاءت عشرات الكتب المعروضة إضاءات في عتمة المنعطفات والذين يستخفون بهذا الحراك لا يقدرون التعبئة الذهبية ولا تجييش الرأي العام وتحريض العقل الجمعي، والذين قاربوا تلك المناطق الساخنة لم يكن لديهم بصر ولا بصيرة وتعاملهم مع الظواهر والأحداث لا يمت إلى المصداقية بصلة، وكل الذي يتوفرون عليه إمكانية الوصول إلى المعلومات والبراعة في رصفها، وكل همهم أن تمتلئ جيوبهم وأن تنفق كتبهم وأن يتهافت عليهم الناشرون، ولأن طائفيات أبدت أعناقها وأصبحت مادة خصبة فقد توجه لها المؤلفون والناشرون وحرضت الفضوليين على استناق قراءتها بعيون لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها وصدق الله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
لقد أعيدت قراءة المذاهب والتيارات والحركات الإصلاحية بأسلوب تحريضي إقصائي تجريمي، وهو ما ينذر بالخطر ويمد التنبؤات بنار تلظى وقودها الناس والأمن وسائر الأشياء والمثمنات.
وإذا كانت الدول مسؤولة عن حفظ الحدود الإقليمية من الاختراقات فإنها مسؤولة أيضا عن حفظ الأجواء الفكرية من التلوث الفكري وليس في ذلك حجر ولا تسلط ولا سلب للحريات، فلكل أمة أمنها النفسي والفكري، وما من حرب ضروس إلا وقد مهدت بها الأقلام والحناجر.