سرّبت جهات ذكية قبل عدة أسابيع، مقاطع مصورة من تظاهرة حاشدة في شرق وجنوب اليمن -أبين وأرحب- قيل إنها تجمع بين قيادات من القاعدة، وبين أنصار لها في الجزيرة العربية.
فقد أظهرت الصور التي عرضتها قنوات فضائية في حينها، آلافاً من الرجال الذين يتمنطقون بالخناجر، ويتحزمون بالرصاص، ويرفعون الرشاشات والبنادق، ويرقصون في حركات التفافية حول آخرين يخطبون فيهم، يعتقد أنهم من قيادات القاعدة.
توقيت التظاهرة هذه، جاء على خلفية المواجهات العسكرية التي تواجهها الحكومة اليمنية مع الحركة الحوثية في شمالي البلاد، والمظاهرات التي يقودها الحراك الجنوبي، والتي لا تخلو من صدامات شبه يومية مع الأجهزة الأمنية، ويبدو أن توجيهات صدرت إلى خلايا القاعدة النائمة هناك، كي تقول: نحن هنا..! فتستعرض قوتها، وتعلن عن جاهزيتها لاستغلال الوضع السياسي المتأزم في اليمن، فتقاسم على الكعكة المؤملة، أو تستحوذ عليها كلياً، لكن.. سرعان ما انقلب السحر على الساحر، فالظهور المفاجئ لقيادات قاعدية كانت متخفية، وأنصار قبليين يعطون ولاءهم عادة لمن يدفع أكثر، صب في مصلحة السلطة اليمنية، لتنقض بعد ذلك على أوكار الخلايا الإرهابية، التي لم تفق من سكرة الفرح بنصر الظهور العلني، فتقتل العشرات منهم، وتأسر العشرات، وتلاحقهم بعد ذلك في صنعاء وفي شمالي البلاد، حتى قتلت في عملية واحدة، خمسة قياديين بارزين كما جاء في الأخبار.
ظهور غير محسوب للقاعدة، قصم الظهور التي ظنت أنها سوف تلعب على حبال التشرذم الذي ظهرت بوادره على الخارطة اليمنية، وتستغل انشغال الحكومة اليمنية، فتكون بذرة حكومة قاعدية طالبانية، تنازع الحكومة الشرعية والحوثيين وحتى الجنوبيين في المستقبل، وتنطلق من حضرموت تحديداً، إلى بقية أجزاء الجزيرة العربية.
ظهور آخر غير موفق، تمثل في العملية الفاشلة التي دبرتها القاعدة انطلاقاً من اليمن، فالإرهابي (عمر فاروق عبدالمطلب)، فشل في تفجير طائرة على مطار أمريكي، على الرغم من أنه خبأ متفجرات القاعدة في منطقة سفلية من جسمه، مثلما فعل صاحب المؤخرة، الذي استهدف مساعد وزير الداخلية السعودي في شهر رمضان الفارط، فقد كشف الإرهابي (عمر فاروق)، عن مخطط جرى في اليمن، لتدريب عشرين عنصراً على استخدام مؤخراتهم للتفجير والقتل، الأمر الذي ألّب أمريكا ودول أوروبا تحديداً، ليس على القاعدة وحدها، ولكن حتى على اليمن التي ينطلق منها إرهاب القاعدة. وهذه قاصمة أخرى للظهور، تعدت ظهر القاعدة، إلى ظهور اليمنيين والعرب والمسلمين كافة.
وعندما ارتفعت وتيرة الانتقادات والحديث عن خطر الإرهاب القادم من أرض اليمن في وسائل الإعلام الغربية، ظهر بيان ناطق باسم علماء يمنيين، يهدد بإعلان (الجهاد) لو تدخلت الدول الغربية عسكرياً في اليمن، والحقيقة أننا جميعاً ضد أي تدخل عسكري أجنبي في أي بلد عربي، وليس في اليمن وحدها، ولكن علماء اليمن البيانيين هؤلاء، ظهروا في إعلانهم هذا، وكأنهم يتبنون مشروع القاعدة نفسه، الذي يقوم على الجهاد ضد الدول الكافرة، وضد الحكومات الكافرة، ومن هذه الحكومات الكافرة، حكومات الدول العربية وفي مقدمتها الحكومة اليمنية، وكان الأجدر بهؤلاء العلماء اليمنيين -لو أنهم أرادوا أن يكونوا مقنعين، وأنهم ضد القاعدة وإرهابها فعلاً- أن يعلنوا قبل ذلك الجهاد على الإرهاب، الذي تمارسه القاعدة ضد بلادهم وضد جارتهم السعودية، وضد العالم أجمع انطلاقاً من الأرض اليمنية، ثم يرفضوا بعد ذلك -ونحن معهم-، أي تدخل أجنبي في بلادهم.. هذا ظهور غير موفق، يسهم في قصم ظهور المؤسسات الدينية، وخاصة السلفية منها، التي تنخدع عادة بخطاب القاعدة المعادي للغرب، فتقع في المصيدة، وتجد نفسها رغماً عنها تسير في ركابه، أو أن بعضها يواري ويماري، على حساب وحدة وطنه، وأمن واستقرار الشعوب العربية في هذه المنطقة، وهذا بالضبط، ما عكسه بيان علماء اليمن الأخير.
ظهور قاصم آخر لا يقل سوءاً عما سبقه، وهو استلاب رخيص يقوم به علماء محسوبون على الزيدية والشيعة والسنة -كنا نظنهم أفطن وأعقل وأثقل مما ظهروا به- ودعاة سنة من المتكسبين عبر الفضائيات المختلفة، فهؤلاء وهؤلاء جميعاً، يلتقون في استغلال المسألة الحوثية، إما لتصفية حسابات شخصية ومذهبية ومناطقية، أو لأدينة الخروج الحوثي، تمهيداً لفتح ملفات عمرها مئات السنين، ومن ثم الركون للفرز الطائفي والمذهبي، الذي سوف يمزق اليمن إلى دويلات طائفية ومذهبية لا سمح الله، ويستعدي الشيعة على إخوانهم السنة، والسنة على إخوانهم الشيعة، ويلبِّس على الزيدية، أو يشوش على السلفية، فتشتعل الفتن، وتكثر الإحن، ويختصم الإخوة، ويشتجر أبناء العمومة والدين الواحد.
ظهر أحدهم من (ألمانيا)، وهو يبرر لخروج الحوثيين على دولتهم وعدوانهم على الأراضي السعودية، ويأبى الله إلا أن يكشف خبيئته، فهو منع من التدريس في مسجد بناه في بلده بالملايين كما يقول، وموقفه الشخصي هذا، جعله ينقلب على زيديته ووطنه وحكومته، ويصطف إلى جانب إيران الذي يتعلم فيها أبناؤه..!.
وظهر أحدهم في خطبة منبرية متشنجة، لينتقص من مرجعية دينية شيعية، فيزندقها ويكفرها، لأنه وجد في أدبياتها ما لا يتفق مع مذهبه، لكنه نسي أن آخرين في الجانب الآخر الذي تهجم على مرجعيته، ربما وجد ذريعة في موقفه العدائي هذا، فكفر وزندق مرجعيات سنية بالمثل، وبهذا يكون هو وأمثاله من المتطرفين السنة والشيعة، سبباً في قيام حرب (داحس وغبراء) معاصرة.. هذا ظهور تعيس مفلس، ليس فيه كياسة ولا منطق، ولكن فيه قصم لظهور ليس لها ناقة ولا جمل في مزايدات المنبريين ومشاحنات الفضائيين.
في هذا الجو المشحون بالحقد والكراهية، بسبب استخدام الدين، والزج بالمذهبية والطائفية في قضايا سياسية في أساسها، وجب تدخل الساسة المعنيين في هذا الجزء من العالم، فلن يوقف مهازل المتاجرين بالدين إلا السياسيون، ولن يقطع ألسنة المتكسبين بالسب والشتم والتكفير والزندقة إلا السياسيون، ولن يوقف دعاة الأحقاد والكراهية بين السنة والشيعة إلا السياسيون.
يا حكوماتنا العربية والإسلامية، مارسوا حقكم في درء الفتن، ومنع الإحن، بتنزيه الدين الإسلامي الحنيف، ومذاهبه كافة، وتحييده عن ممارسات صبيانية يخوضها مغامرون جهلة، يدعون أنهم حماة للدين، وهم ألد أعداء الدين.
assahm3@gmail.com