اندفاع وانكباب أجهزتنا الحكومية والخاصة على الشركات الاستشارية الغربية، يثير الكثير من التساؤلات، فعلاقتنا مع الشركات الاستشارية منذ أكثر من ثلاثين سنة، والمحصلة لهذا العلاقة نتائج لا ترقى إلى ما كان منشودا من تلك العلاقة، واعتقادي إن السبب الرئيس هو اختلاف بيئة ومنشأ المخزون المعرفي لديهم، على افتراض أنهم كفاءات عالية، مع ثبات أسس العلمية للاستشارات. والتي لا أشك في وجود كفاءات وطنية تستطيع استخدام أسس وقيم استشارية علمية إدارية سبقهم إليها أجدادهم، علماء ومستشارين لتوظيف المخزون المعرفي النابع من بيئتنا العربية الإسلامية.
فهذا المستشار الإداري المالي أبو يوسف لأعظم ملوك الأرض هارون الرشيد في وقته، لدولة تمتد من حدود الصين شرقاً إلى المغرب الأقصى غرباً، فقد طلب الرشيد من أبو يوسف أن يضع له دليلاً في مالية الدولة، فكتب أبو يوسف كتابه «الخراج»، والذي فصل فيها وأبدع ووضع نظام لمالية الدولة، والذي شمل موارد الدولة ومصارفها، والطرق المثلى لجمعها ومسئوليات وصلاحيات مالية الدولة، مع بعض النصائح والاقتراحات، فكان نظاماً شاملاً لمالية الدولة.
وهذا المستشار الإداري الإمام القاضي أبو الحسن الماوردي المتوفى سنة 450هـ، الذي استجاب لطلب أحد الوزراء في وقته لتنظيم عمل وزارته فكتب دراسته الاستشارية « قوانين الوزارة»، الذي وضح فيها قوانين ووظائف ومهام وشروط وحقوق الوزارة، لقد أبدع الماوردي في تأسيس تلك الوظيفة، بالإضافة إلى ما كتابه «الأحكام السلطانية والولايات الدينية»، والتي أسس فيها الكثير من مبادئ الإدارة العامة، ووظائفها وشروط تقليدها، وتكلم عن أنواع الوزارات وأقسام الإمارات، والقضاء، مع تحديد وظائف ومهام كل نوع وكل قسم، ثم عاد ليتكلم بشيء من التفصيل عن السياسة الإدارية للملك في كتابه « تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك»، والتي طرح قواعد لسياسة الملك لم يسبقه عليها احد، وفصلها بشكل موسع.
ومن المستشارين الإداريين أسعد بن المماتي الوزير الأيوبي المتوفى سنة 606هـ، الذي كتب دليلاً لوزارته والمؤسسات العامة الأخرى في الدولة، والذي يعتبر من أهم المراجع الإدارية، فاستعرض في كتابه «قوانين الدواوين» الوظائف العامة، وتصنيفها، ووصفها، وتحديد مسئولياتها وشروطها قبل علماء الإدارة في العصر الحديث، كما استعرض وصف للمؤسسات العامة الأخرى في الدولة الإسلامية مع التفصيل.
وهناك الكثير من الكتب والدراسات الإدارية الرائدة التي أثرت المكتبة العربية الإسلامية والعالمية، ومن تلك الدراسات: دراسة ابن تيمية الإدارية في كيفية اختيار الوظائف العامة، ووضع المعايير التي تساعد على ذلك، وذكر بعض من تلك الأسس والتي منها الكفاءة والأمانة والقوة، كما بين كيفية تسيير الأمور داخل الدولة، وتحدث عن إدارة المال العام وكيفية جمعه و أوجه صرفه، وتناولت رسالته ما يطلق عليها حديثاً القانون الإداري بشيء من التفصيل، في دراسته «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» ، والتي تعد من أهم الدراسات والمراجع في نظام الحكم والإدارة.
ودراسة ابن خلدون في مقدمته، والذي احتوي على الكثير من العلوم والحقائق التي لم يتوصل إليها العلماء الغربيون إلا في الأيام القريبة الماضية، فقد، فقد أشار ابن خلدون إلى أهمية الأفراد وعلاقاتهم الشخصية فيما بينهم، والدوافع والحوافز، وديناميكية الجماعات، كما أشار إلى مراحل نمو الدول وإنها تمر بمراحل، مرحلة الولادة والنمو والشيخوخة، وجميع هذا النظريات نجدها متمثلة في الكثير من النظريات الغريبة كما في النظرية السلوكية التي تعترف بأهمية الفرد وديناميكية الجماعات، ونظرية كرينر وجاكسون مراحل النمو في المنظمات.
ودراسة أبي عبد الله الأزرق المتوفي سنة 986هـ «بدائع السلك في طبائع الملك»، الذي تحدث فيها عن مواضيع الملك، وحقيقته، واستعرض أنواع الرياسة وأسباب وجودها، وطرح أركان الدولة، والتي ترتكز عليها الدولة وذكر أنها عشرون ركنا، مع تفصيل لكل منها، ثم تكل عن صفات التي يجب أن يتحلى بها مسئولي الدولة، كما وضح الهيكل التنظيمي للدولة الإسلامية، مع تحديد أهم المراكز في الهيكل التنظيمي.
إذا كانت هذه النماذج من العبقريات الفذة والدراسات الاستشارية الإدارية الرائدة، التي تزخر بها مكتباتنا، والتي قدمت لملوك ووزراء دول عظمى، دول تمتد من الصين شرقاً إلى المغرب الأقصى غرباً، دراسات نشأ مخزونها المعرفي في بيئة عربية وإسلامية، فحققت الأهداف المنشودة والنتائج المرغوبة فكانت أحد أهم أسباب النجاح والفلاح، فما المانع من البحث عن أبو يوسف، والماوردي والأزرق، فهم بيننا ومن حولنا.
alaidda@hotmail.com