يأتي في كُتُب التراث والمتفرّقات، أشياء فيها مبالغات، مع سعة الرزق ووفرة المال، وحبّ التّباهي. وهذا يتكرر في كل عصر ومكان، ويأتي لذلك حكايات.. ولا غرابة إذا رأيت في أيدي كثير من النّاس، شيئاً يتلهّى به، كالسبحة وغيرها..
وهذه السبحة لها دلالات وغرائب، ذلك أن السّبحة، أو المسبحة في عصرنا الحاضر، بلغت من التّنويع والكثرة، بحيث إنَّك لن تجد مدينة في العالم لا تباع فيها، وامتازت مكة المكرمة والمدينة المنورة بذلك، حيث يَفِدُ إليهما المسلمون من كلِّ مكان للتّعبد، فيرى بعضهم أنَّ أجمل هدية يعود بها لبلاده وأصدقائه: مِسْبَحَة.
وهذه المسبحة، اختلف الناس في كيفية استعمالها، واهتمامهم بها، وتفنَّنت شعوب الأرض في كيفيَّة صنعها وحجمها: فالأفارقة يصنعونها مِن أخشاب بيئتهم، أو مِن نوى الثِّمار، وأنْفَسُها ما يكون من سنّ الفيل. أما الأثرياء فيقتنون مسابح من الفضة والذهب، ونفيس الجواهر، وتعرض في عُلبٍ جذَّابة. وأصحاب التّحف يهتمون بالمسابح الأثرية، وما يُصنع من اللؤلؤ، ونفيس الجواهر.
والهنود يصنعونها من أنواع عديدة من الأخشاب، وخاصة ما له رائحة زكية عندما يُفْرَكُ في الكفّ، أو من أحجار الكهرمان. وفي العراق يهتم كبار السن بالمسابح ذات الحبات الكبيرة، التي لا تكاد تُحْمَلُ إلا بمساعدة حمَّال، وقد شاهدتُ ذلك في بغداد في المقاهي الشعبية.. أمَّا الوجهاء فيغالون في هذه السبح، ويتباهون بإهدائها وفق مسميات معروفة لديهم.
أمّا المصانع اليابانية فأغرقتْ الأسواق بمسابح من كلِّ نوع، كالخشب والبلاستيك، والزجاج والقواقع البحرية وغير ذلك، كتجارة تسترعي الاهتمامات، والأذْواق المختلفة، وتعود عليهم بمكسب اقتصادي.
فهي للتسلية، ولها هواة يجمعونها ويغالون في ثمنها، كأي تحفة من التحف. والمتصفح للتاريخ الإسلامي، يجد غرائب وعجائب وطرائف عن هذه السبح، لتأثر العرب بالأمم المختلفة، فمن ذلك:
- سبحة زبيدة، قال عنها صاحب كتاب البصائر والذخائر: إنَّها اشترتها بخمسين ألف دينار ذهبي (1: 145).
- وذكر الصّفدي في الوافي بالوفيات: أنّ نصر الدولة صاحب (ميّا فارقين) كانت له سبحة من اللؤلؤ، عدد حباتها مائة وأربعون لؤلؤة، ووزن كل حبّة مثقال، وفي وسطها (الجبل) من الياقوت، وقطع (بلخش)، وقدرت قيمة ذلك بثلاثمائة ألف دينار (1: 122).
- أمَّا صاحب كتاب: نشوار المحاضرة، فقد ذكر أنّ الخليفة العباسي في وقته، كانت لديه مسبحة قوّمَتْ بمائة ألف دينار، كما رُوي: أن جارتيه (عَمْرة)، قالت: إن المقتدر استدعى بجواهر، فاختار منها مائة حبة، ونظمها مسبحة يسبح بها، وأن هذه المسبحة عُرِضَتْ على الجوهريين، فقوَموا كل حبة منها بألف دينار وتزيد (ص147).
- وذكر ابن الأثير: في تاريخه أن أمير المؤمنين (المسلمين) يوسف بن تاشفين، لمَّا خرج من المغرب بجيشه، واستولى على غرناطة بالأندلس، بعدما استنجد به ملوك الأندلس في عام 479هـ.. وجد لصاحب غرناطة -من القوط- سبحة جوهر من أربعمائة حبة، وقوّمت كل حبة بألف دينار (10-155).
- أمَّا صاحب كتاب المنتظم، فقد أورد في هذا الموضوع معلومات منها: أن الخليفة العباسي المقتدر في عام 333هـ، لمّا سَمَلَهُ تُوزُون، ونصّب المستكفي خليفة بدلاً منه، أراد المستكفي أن يكافئه، فأرسل إليه سبحة من جوهر، في قدّ واحد، خاتمتها ياقوتة حمراء، قوّمت بخمسين ألف دينار (7: 275).
- ومحمد بن عمر العلويّ قال صاحب الكتاب الآنف الذكر: كانت له سبحة من جوهر، قيمتها مائة ألف دينار (7-212)، والدينار يساوي 12 درهماً، والدرهم بمثابة الريال عندنا، والدينار من الذهب والدرهم من الفضّة.
- وهناك سبحة: تعرف باسم: سبحة زيدان، ويضرب بها المثل، وهي للمقتدر العباسي، أعطاها لقهرمانته (زيدان)، وما ضُرب بها المثل إلا من نفاستها، وارتفاع ثمنها (6: 10).
- ولمّا وزر عليّ بن عيسى للمقتدر قال: ما فعلت سبحة جوهر، قيمتها ثلاثمائة ألف دينار، أُخِذَتْ من ابن الجصّاص؟ قال: في الخزانة. فقال: تطلب. فطُلِبَتْ فلم توجد، فأخرجها الوزير من كمّه، وقال: عُرِضَتْ عليّ فاشتريتها.
فإذا كانت خزانة الجواهر، لا تُحْفَظ، فمن الذي يحفظ؟ فاشتدّ ذلك على المقتدر، الذي عُرفَ عنه حبه للنفائس، ومنها السبح (6: 70). وهذه المبالغات شبيهة بمغالات أثرياء الغرب في اللوحات والصور، تهرّباً من الضرائب.
أمّا أطرف ما يُسمع من نوادر المسابح، فهي تلك الحكاية، التي نسمعها من ألسنة كثير من العراقيين، عن مسبحة الباقلاء لإغاظة أهل بلدة الحلة، وتكاد تكون من القصص الشعبية المستفيضة، وتوضيح ذلك أن أهل الحلة، يكثرون من زراعة الباقلاء، وأكلها، ويعيّرهم جيرانهم بذلك، كما هي عادة القرى والبلدان المتجاورة، فكانوا يغضبون من ذلك، وكان أحد الشيوخ من النجف، يقضي شهرين من فصل الصيف، في إحدى ضواحي الحلة، فإذا مرّ موكبه تخطى وسط مدينة الحلّة، حتى يصل إلى القرية، وقد لاحظ أنه إذا مرَّ بسوق الحلة، يسمع الشتائم خلفه.
فيعجب وقد تبيّن له السّبب، بأنَّ أحد تلاميذه يتحرش بأهل الحلة، ويعيّرهم بالباقلاء، فيسبونه، فأنذر الشيخ ذلك التلميذ، وأنّه لن يصحبه معه مرّة ثانية.
فاعتذر للشيخه وحلف له بعدم فتح فمه في الموضوع أمامهم، مرة أخرى، لكن الشيخ فوجئ بالشتائم تتزايد، فنظر إلى تلميذه، ووجده صامتاً كما وعد، ولكنه قد رفع كفه حاملاً مسبحة من الباقلاء، يسبح بها أمام الناس، لتتمثل فيها شقاوة الأولاد وحبّهم للإثارة.ولو تتبّعنا ما رُصد عن المسبحة، لخرجنا بنتيجة تفوق ما عليه الغرب اليوم، من حب التحف، ورغبة في المباهاة، واقتناء ما فيه غرابة، أو ندرة أو غلاء ثمن، من أجل الافتخار.
أمّا الفكرة الأساسية للمسبحة، فلعلّها بدأت مع الرغبة في التسبيح بالحصا، أو النّوى، ولذلك نوادر وحكايات أيضاً.
وقد رُوي أن ابن مسعود -رضي الله عنه- قد أنكرها على من كان يعملها، ونهاهم عن ذلك، وأخبرهم أن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت في التسبيح باليد اليمنى، وبالأصابع لأنها مستنطقات. فلعلّ الناس يعودون اليوم إلى هذه السنة ويطبّقونها، ويتركون المسبحة للتسلية فقط.
وقد يكون لدى بعض الناس، في كل مكان، من كان يغالي في المسبحة والتحفظ عليها مع التحف، لتكون ذخراً في الأزمات الاقتصادية، لأنهم يرون قيمتها، من جوهرها آمن من العملات الورقية، وأنفس ثمناً.. والله أعلم.
وحتى النساء يتنافسن في السبح ونفاستها وإهدائها في مناسبة الزواج.
عُمر ودار العباس:
لمّا أراد عمر بن الخطاب هدم دار العباس بن عبدالمطلب، ليزيدها في المسجد، قال: بعنِيها، فأبى العباس أن يبيعها إياها. فأراد عمر أخذها منه، وإدخالها في المسجد، وقال: ذلك أرفق للمسلمين، فقال له العباس: حَكَم ما بيني وبينك في ذلك، فجعلا بينهما أبيّ بن كعب رضي الله عنه، فقال: إني أحدثكما حديثاً سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنّ داود -عليه السلام- أراد بناء بيت المقدس، وكان أرضه لرجل، فاشتراها سليمان -عليه السلام- منه، فلما باعه الرجل إياها، قال الرجل: ما أُخِذَ منّي خير، أم ما أعطيتني؟ قال: بل ما أخذتُ منك، قال: فإني لا أجيز، فناقضه البيع.
ثم اشتراها ثانية، فقال: ما أخذْتَ منّي خير أم ما أعطيتني؟ فقال: بل ما أخذت منك. قال: إني لا أجيز البيع، فناقضه.
ثم اشتراها الثالثة، فصنع مثل ذلك. فقال له سليمان: اشتريها منك بحكمك فاحتكم، على أن لا تسألني.
قال: فاشتراها بحكمة. فاحتكم شيئاً كثيراً، اثني عشر قنطاراً ذهباً، فاستعظمه سليمان، فأوحى الله إليه، إنْ كنت تعطيه من رزقنا، فاعطه حتى يرضى، وإن كنت تعطيه من عندك فذلك لك.
وعمّ النبي -صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبدالمطلب إن شاء باعها، وإن شاء تركها)، فقال العباس: أما إذا قضيت فيّ، فقد جعلتها للمسلمين. وفي رواية: كانت للعباس رضي الله عنه، دار إلى جنب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر بعنيِها، فقال العباس: رضي الله عنه: لا أبيعك. قال عمر رضي الله عنه: إذاً آخذها. فقال العباس رضي الله عنه: لا أبيعك ولا تأخذها. فقال: اجعل بيني وبينك من شئت، فجعلا أبيّ بن كعب رضي الله عنه الجميع.
فأخبره الخبر، فقال: أوصى الله إلى سليمان عليه السلام: أن إبْنِ بَيْتَ المقدس.. وكان بيتاً لعجوز، فأراد أخذه منها، فأبت أن تبيعه إياه، فعزم على أخذه منها، وإدخاله في المسجد، فأوصى الله إليه: (أن بيتي أحق المواضع، أنْ لا يدخل فيه شيء من الظلم، فكفّ عن أخذه).
فقال عمر رضي الله عنه: وأنا أشهدكم أني قد كففْتُ، عن دار العباس، فقال له العباس رضي الله عنه: أمّا إنْ كان هذا وحُكِمَ لي عليك، فإني أشهدكم أني قد جعلتها صدقة على المسلمين، فهدمها عمر وأدخلها في المسجد، واشترى نصف موضع كان قد خطّه لبني جعفر بن أبي طالب، وهو بالحبشة، داراً بمائة ألف، فزاده في المسجد (ص118 - 120).
(المدينة المنورة فضائل وأحكام ليوسف بن ردّة الحسني).فأين هذا من اغتصاب الأراضي، ومحاولة هدم المسجد الأقصى من اليهود الظلمة؟