تبدأ قصة هذه الحفرة في أحد الشوارع التي تخترق أحد الأحياء التي تنعت ب»الرقي» في شمال الرياض، والشمال في الغالب مفضل في أكثر من مدينة، شمال مدينة جدة، مثلاً، «يعتبر» أرقى من جنوبها.
قصة «الحفرة» فيها من الطرافة الشيء الكثير ومن العبرة أكثر. كانت هنالك شركة من الشركات المنفذة لواحد من المشروعات التنموية في ذلكم الشارع، واستغرق المشروع أكثر من سنتين، وهو عبارة عن «خندق» طويل عريض وعميق وضع فيه أنابيب ضخمة، لربما كانت للمياه. وبعد انتهاء الشركة من المشروع وسفلتته، تاركة بعض المخلفات مدة طويلة بعد ذلك، بدأت العيوب تظهر، منها تلكم الحفرة التي انهارت مكونة فوهة كبيرة يمكن أن تهوي فيها مركبة. وكانت فوهة الحفرة في مدخل شارع آخر يتفرع من الشارع الرئيسي ويمر به مئات السيارات لكونه ينفذ إلى مجمع مدارس للبنات في ذلكم الحي.
وبعد أيام أحيطت الحفرة بسياج بسيط عمل بطريقة اجتهادية، وكان من ضمن تكويناته «حاويات النفايات الصفراء» المميزة في شوارع المدينة. ثم جاءت جهة ما بعمال وتم ردم الحفرة بتراب بدا أنه حل المشكلة، ولكن بعد يومين انفجر في وسط هذه الحفرة «المدفونة» خط ماء رئيسي كوّن نافورة عظيمة رفعت محتويات الحفرة «المسكينة» من الأتربة إلى أعلى ثم نقلتها قوة المياه المتدفقة إلى الشارع الرئيسي منعطفة إلى شارع آخر، وفق الميول الطبيعية، ملونة مسارها بلون التراب «البرتقالي» الآخذ بالألباب. وعادت الحفرة، أو الفوهة، كما كانت، إن لم تكن أسوأ حالاً، ولكأنها فوهة بركان ثار لتوه، وأحيطت الفوهة بسياج اجتهادي مماثل للسابق.
وأصلحت الجهة المسؤولة الأنبوب المعطوب، بعد أن راح ضحية ذلك مئات من الأمتار المكعبة من المياه المحلاة من البحر والمجلوبة لأحياء المدينة، وربك وحده يعلم تلكم الكميات المهدرة من مياه الشرب. ثم جاء من جاء وردمها بكميات من التراب وتركها، لربما لمعرفة ماذا يحدث لها، قبل أن يتم إكمال ردمها ورصفها.
وحفرة أخرى في حي آخر من أحياء شرق مدينة الرياض، أوردت الخبر عنها صحيفة الحياة في صفحتها الرابعة بتاريخ 13 من شهر محرم 1431هـ بشأن الطفلة نورة ذات الـ(13) ربيعاً التي لفظت أنفاسها الأخيرة في غرفة للصرف الصحي (بالوعة)، وحدث ذلك بعد مغادرة الطفلة منزلها ذاهبة مع والدها وأخيها لمدرستها ككل صباح، ولكنها سقطت في خزان الصرف الصحي القريب من مسكنها والذي تُرك مكشوفاً. ولقد حذر الناطق الإعلامي للدفاع المدني في منطقة الرياض أصحاب العمائر والشقق والعاملين في المحال من التهاون في تغطية غرف الصرف الصحي (البالوعات) لأن ذلك يعرض أرواح الناس للخطر. وهنا نقول إنه من المفترض، أو المتوقع أن ضواحي المدن مخدومة بخطوط الصرف الصحي، ولكن، فيما يظهر، لا تزال هنالك أحياء من هذه المدينة لم تمتد لها خدمات البنية التحتية الأساسية. هل لنا مثلاً أن نتصور أن يبنى مسكن دون نوافذ؟، فكيف بأحياء سكنية تعد «حديثة أو راقية» غير مخدومة بواحدة من أساسيات البنية التحتية للمدن. وفي جامعة القصيم راح ضحية منهل لصرف صحي، بعمق سبعة أمتار، ثلاثة من العاملين في صيانته، وأخرج غواصو الدفاع المدني العمال من المنهل جثثاً هامدة.
الحفر هنا وهناك يتم حفرها ثم ردمها، وكما يقال الهدم أسهل من البناء، مؤسسة تحفر لمشروع تنموي، أو لبنية أساسية وفق مواصفات محددة وبناء على مراقبة للتنفيذ ومن ثم استلام للمشروع قبل أن يدفع لمن نفذه بقية أجره، ولكن سرعان ما تظهر عيوب في المشروع بعدما يحصل المقاول على كامل أجره ويلوح للمسؤولين قائلاً: إلى اللقاء في مشروع قادم.
كم من المشروعات التي نفذت وبذلت الدولة مئات الملايين من الريالات، مشروعات بأحجام صغيرة ومتوسطة وكبيرة في مدن وبلدات وطن كبير واسع مترامي الأطراف. والأخطاء هي الأخطاء في طول البلاد وعرضها، هنالك المسؤولية والمراقبة والمحاسبة، ولكنها تأتي وتثار القضية بعدما «يقع الفأس في الرأس،» كما يقال، بعدما يكون هنالك ضحايا. سواء أكانت مدرسة أم منطقة سكنية جرفتها السيول. ألا يوجد الآن مبان لاستعمالات متعددة في حالة غير مناسبة، وقد تكون فيها عيوب هندسية ولربما كتبت تقارير فنية عنها بعدم صلاحيتها، ولا تزال تشغل الآن؟ ألا يوجد جهات مسؤولة عن استعمالات معينة: المدارس والمساجد والمستشفيات والمستوصفات والمساكن والمتاجر والمطاعم والشوارع والطرقات؟ أين فرق العمل الميدانية لتلكم الجهات، أتكتب تقارير ولا يلقى لها بال؟، أم الإصلاح في حاجة إلى الكثير من المال؟ ولقد ذكرنا آنفاً أن الدولة تبذل المال الكثير، إذن أين يذهب معظم المال المبذول؟، أو ليس المال هو الدواء؟، أم أن ثمة داء لا ينفع فيه أي دواء؟ أما ما يتعلق بمبادئ السلامة فالوعي الشخصي والمجتمعي عند مستوى متدن، سواء في المنزل أو الطريق أو في مقر العمل، كم من سقط في خزان مياه في المنزل وكم من صعق بتيار كهربائي. وفي الشوارع تعتبر السلامة المرورية عند أدنى مستوياتها، انظر إلى من يتجاوز إشارة المرور الحمراء، لقد تحول ذلكم السلوك إلى ظاهرة مزعجة وخطرة في الوقت ذاته، ثم لاحظ من يقود مركبته باتجاه معاكس ومن يقودها مستخدماً أرصفة المشاة.
لنعود إلى مسألة «الحفر والدفن،» ألم تجرف سيول جدة والرياض أراضي كانت مناطق منخفضة من الأرض لم تكن مهيأة للسكنى وتم دفنها ثم التصرف فيها ثم تحولت ملكيتها للمواطنين، الذين حصلوا على فسوحات بناء رسمية من البلديات والأمانات وبنوا عليها مساكنهم؟ ثم مرت الأيام والسنوات وجاءت السيول متدفقة تجري في مسالكها فوجدت هذه المسالك مشغولة بمبان من مختلف الأنواع والاستعمالات ولمختلف الجهات، العامة منها والخاصة. أو لم نعلم أن السيول، حتى بالنسبة لعامة الناس، تبحث عن مجاريها؟، ألم نسمع من آبائنا وربما من أجدادنا مقولة مشهورة: «السيل يدور مجاريه»؟ يبدو أننا نعلم ذلك وكثير من المسؤولين يعلمون ذلك ولكن تعارضت المصالح وخلطت الأوراق فحولت مجاري الأودية وأفواهها إلى مناطق سكنية واستعمالات أخرى مساندة. ويعلم معظم الناس أن إنشاء الضواحي السكنية في المدن من المؤشرات التنموية الحضرية الإيجابية، وفي الغرب ظاهرة الضواحي ورغبة سكان المدن في «التضحي؛» أي «الرغبة في سكنى الضواحي» لها قيمة اجتماعية، وتعلق الأسر الآمال وتحلم بالنزوح إلى الضواحي الجديدة للمدن هروباً من المدن القديمة التي عفا عليها الزمان.
أما في الشرق فالمسألة تختلف، إذ يقطن الضواحي حديثو النزوح إلى المدن، وقد تنتشر في الضواحي مدن الصفيح والمناطق السكنية «العشوائية». يحدث كل ذلك طبعاً في غياب الرؤى والإستراتيجيات الحضرية. ولنا في تجربة دولة المملكة المغربية الشقيقة خير مثال، حيث إن للجغرافيين في ذلك البلد دوراً فاعلاً في صياغة قانون سمي ب»قانون الترب الجهوية»، ويعني ذلك في قاموس دول المشرق العربي «قانون استعمال الأراضي الإقليمية». وضع القانون من أجل دراسة الأراضي في ضوء خصائصها الطبيعية وعمل أسس وضوابط يتم اتباعها ومراعاتها من أجل ترشيد الاستعمالات المتعددة للأرض لتنسجم مع خطط التنمية الوطنية.