Al Jazirah NewsPaper Monday  18/01/2010 G Issue 13626
الأثنين 03 صفر 1431   العدد  13626
 

أهو عام فيه تُصفَّى القضية؟
د. عبد الله الصالح العثيمين

 

المراد بكلمة (القضية) في هذه المقالة قضية فلسطين. وكل الزعماء العرب؛ يقولون: إنها قضيتهم.. قضية أمتهم الأولى. ولقد ظهر من الأدلة العملية ما يميز الصدق من الكذب، وإن كانت هناك خفايا قد تظهر في يوم من الأيام،

وقد تبقى إلى الأبد خفية. وكما يقول أولئك الزعماء ذلك القول بالنسبة لقضية قومية الطابع طرحاً إعلامياً يقول زعماء مثل ذلك بالنسبة لقضايا وطنية قطرية. وكنت قد أشرت إلى هذا في أبيات من قصيدة حول الحرب الأهلية في لبنان. وما حدث -وما زال يحدث- في أقطار عربية غير لبنان ليس ببعيد في بعض جوانبه عما حدث في لبنان. وهذه الأبيات كما يأتي:

كلُّنا في الهمِّ أشلاء مآسٍ يَعربيَّه

أيّ قلبٍ لم تُمزِّقه من الحزْن شظيّه؟

فقهقهات الموت في بيروت روحٌ همجيّه

حرّك الشيطان في أرجائها ألف سريِّه

وسيوف العُرْب تجتزُّ رقاباً عربيَّه

لم يَدَعْ بتّارها شيخاً ولم يترك صبيَّه

أيُّهم لبنان في وجدانه أَسمى قضيَّه؟

كلُّهم يقتل باسم الشعب والشعب الضحيّه

وقبل ثلاثة شهور كتبت مقالة عنوانها: (لاءات السلطة الثلاث). وبدأتها بالإشارة إلى أن هناك ثلاث لاءات مشهورة حول قضية فلسطين ظلَّت مقدَّرة كل التقدير في ضمائر المخلصين من أمتنا العربية، الذين لا يقبلون الواقع المبني على ظلم. وكان عدم قبول الواقع الظالم هو ما بيَّنه الملك فيصل، رحمه الله، للرئيس ديجول عندما قال له هذا: إن إسرائيل قد أصبحت أمراً واقعاً فلا بد من الاعتراف بشرعية وجودها؛ إذ أجابه الملك بقوله: يا فخامة الرئيس لو قبلتم بالأمر الواقع لمجرد أنه أمر واقع لظلَّت فرنسا تحت الحكم النازي الألماني. والواقعية -وإن كانت ظالمة- هي ما قبله عدد من زعماء العرب المستسلمين، وينادي به من ينادون من الكتَّاب المنخدعين أو المتجاهلين للحق ومنطق التاريخ.

كانت تلك اللاءات الثلاث المقدَّرة هي ما تقرَّر في مؤتمر القمة العربية في الخرطوم عام 1967م؛ وهي: لا مفاوضات مع دولة الصهاينة المغتصبة، ولا اعتراف بشرعية وجودها على الأرض العربية، ولا سلام معها. وأشرت في تلك المقالة إلى أن تلك اللاءات الثلاث المقدَّرة أصيبت؛ واحدة بعد أخرى، بهشاشة العظام إلى أن وافاها الأجل المحتوم. وكانت بداية تلك الهشاشة قد حدثت عند نهاية حرب1973م، التي برهن فيها المقاتل العربي على الجبهتين المصرية والسورية على عظمته بسالة وعزما، لكنها انتهت النهاية التي يعرفها الكثيرون مع الأسف الشديد.

ثم جاء انكسار العمود الفقري من جسد أمتنا نتيجة تلك الهشاشة بالعظام بخروج مصر العظيمة -بكل ما لها من ثقل مادي ومعنوي- من ميدان المواجهة مع دولة الصهاينة باتفاقية كامب ديفيد عام 1979م؛ وهي الاتفاقية، التي عدَّها عدد من زعمائهم أكبر انتصار لهم بعد قيام دولتهم، عام 1948م، على أرض فلسطين. ومن المعروف والثابت أن عدداً من رجال السياسة في مصر -بينهم وزير خارجيتها الذي كان مع الوفد المفاوض في الكامب- كانوا ضد بعض بنود تلك الاتفاقية، وأن الرئيس الأمريكي، جيمي كارتر الراعي للمفاوضات، قد حاول أن يبدي الرئيس المصري موقفاً أقوى من الموقف الذي أبداه؛ محاولة منه أن يقتنع زعماء العرب الآخرون بما يتوصل إليه، لكن تأثير أناس مثل التهامي كان الأقوى، فحدث ما حدث.

ولم يتأخر ظهور النتائج المضرة بالأمة لانكسار ذلك العمود الفقري من جسدها طويلاً. فكان من تلك النتائج أن تجرّأ الصهاينة بعد ثلاث سنوات فقط على اجتياح لبنان والوصول إلى عاصمته بيروت حيث ارتكبت مجزرة صبرا وشاتيلا، ثم كان مستنقع حرب كان طرفاها المباشران العراق وإيران، وأهلكت من أهلكت من نفوس كثيرة، كما استنفدت ما استنفدت من أموال طائلة، وخلَّفت ما خلَّفت من أحقاد وضغائن. ثم جاءت فعلة صدام التي فعلها وهو من الضالين المجرمين؛ وذلك بعدوانه على الكويت واحتلالها. وكان من نتائج تلك الفعلة الضالة الإجرامية أن حطَّمت أمريكا قوة العراق التي كانت -كما قال وزير خارجية تلك الدولة حينذاك- الخطر الاستراتيجي الحقيقي على الكيان الصهيوني، وجُرَّ قادة العرب إلى مؤتمر مدريد. وبينما كان الوفد الفلسطيني في ذلك المؤتمر يحقق نصراً إعلامياً ضربته القيادة الفلسطينية من الخلف بإجراء مفاوضات أوسلو، التي عجب رئيس وزراء ذلك الكيان، رابين، من ضعف الموقف الذي أبداه الفلسطينيون فيها. وبذلك وقَّعوا على بنود اتفاقية اتضح -فيما بعد- أنها أوجبت عليهم أن يقفوا مع الصهاينة ضد أيِّ مقاومة فلسطينية.

وقبل ثلاثة شهور أعلن أحد أقطاب السلطة الفلسطينية ثلاث لاءات، وهي: لا تنازل عن وجوب انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة عام 1967م بما فيها القدس، ولا تنازل عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين؛ وهو حق أقرَّته الأمم المتحدة، ولا اعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية. وهذه اللاءات الثلاث هي أقلُّ ما يمكن أن يطالب به أركان السلطة الفلسطينية؛ وبخاصة بعد أن حُذِف من ميثاق منظمة التحرير ما حُذِف، وبعد أن آلت أمور المنطقة بعامة وأمور الفلسطينيين بخاصة إلى ما آلت إليه.

وفي كتابتي عن لاءات السلطة الفلسطينية الثلاث أشرت فيها إلى أن لاءات مؤتمر الخرطوم الثلاث المشهورة قد أصبحت أثراً من آثار أمتنا عندما كان لديها كرامة ينظر إليها الكثيرون باحترام وتقدير، وسألت: هل يثبت أركان السلطة الفلسطينية أنهم لن يتنازلوا عما يُصرِّحون به الآن من اللاءات الثلاث الجديدة؟ وكانت محاولتي الإجابة عن ذلك السؤال باختصار ما يأتي:

بالنسبة للاء الأولى؛ وهي لا تنازل عن وجوب الانسحاب الصهيوني من الأراضي المحتلة عام 1967م، للمرء أن يسأل: هل بقي في الضفة الغربية إلا أوصال مقطَّعة يزداد فيها يومياً انتشار أورام المستعمرات الاستيطانية؟ وهل هناك من يجهل أن الصهاينة، الذي ضَمُّوا القدس رسمياً إلى دولتهم، ماضون في إكمال تهويدها؟ إن زعماء الصهاينة؛ ابتداء من هرتزل، ومروراً ببن جوريون، وانتهاء بالمتربِّعين الآن على كرسي الحكم الصهيوني، قد أعلنوا أن ذلك التهويد هدف لا تنازل عنه، وأن معاول الهدم لا بد أن تقضي على أساسات المسجد الأقصى.

أما بالنسبة للاء الثانية، وهي لا تنازل عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، فالمعروف أن زعماء الصهاينة -وهم الجانب الأقوى المتفرعن المتغطرس- يرفضون ذلك الحق رفضاً تاماً، وأن قادة أمريكا يدعمونهم دعماً غير محدود في هذا الأمر. ومن المشكوك فيه جداً -وفق ما هو جار مشاهد- عدم استسلام الأضعف لما يريده ذلك الأقوى المتغطرس المدعوم أمريكياً.

وأما اللاء الثالثة؛ وهي لا اعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية، فإن زعماء الصهاينة -في ضوء ما لمسوه من توالي تنازلات القيادة العربية؛ فلسطينية وغير فلسطينية- لن يتنازلوا عما أصرُّوا عليه هم وحلفاؤهم المتصهينون في هذا الشأن.

وكان ختام تلك المقالة كما يأتي:

لقد عرف المواطن العربي كيف دُفِنت لاءات مؤتمر الخرطوم الثلاث المشهورة: فهل سيعرف كيف تُكفَّن لاءات السلطة الثلاث عاجلاً أو آجلاً؟

ويبدو -وأنا أكتب هذه السطور بعد مُضيِّ ثلاثة شهور على كتابتي تلك المقالة عن (لاءات السلطة الثلاث)- أن هذه اللاءات بدأت تُكفَّن فعلاً. ولئن بقي حديث عن شيء منها قولٌ غير جدِّي ولا مُجدٍ فإن من الواضح صهيونياً وتصهيناً، قد اتخذ طريقه. وإذا كنت قد قلت عن العام المنصرم بأنه عام من الذل فإن مؤشرات عديدة؛ فلسطينياً منقسماً بين متمسكين باتفاقية أوسلو، التي من بنودها مناهضة المقاومة ومُتبنِّين لهذه المقاومة، وعربياً بين متخاذلٍ يبدو خائفاً ومُكبَّلٍ بإملاءات اتفاقيات واضحة، وغربياً بين متصهينٍ ومسايرٍ للصهاينة طوعاً أو كرهاً، كلها تدل على أن الأوضاع وصلت إلى درجة تجعل من الممكن وضع السؤال، الذي جعل عنواناً لهذه المقالة؛ وهو: (أهو عام فيه تُصفَّى القضية).


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد