(الإفراط) حالة (مزاجية) توحي بها النفس ويسيرها التدبير العشوائي، وحالة كهذه أمر يرفضه الإنسان السوي حيثما كان، لأنه يتقاطع مع كثير من القيم وضوابط السلوك وسننه التي تؤهل ذلك الإنسان لبلوغ ما هو أسمى من قول أو عمل، ولأنه يفرز أنماطاً غير محمودة من الأقوال والأفعال المؤذية لصاحبها، وقد تتعداه إلى آخرين سواه لا ذنب لهم فيه ولا حيلة لهم معه.
من جانب آخر، (التفريط) وجه آخر ل(الإفراط) لكنه مناقض له في الفعل ورد الفعل، يتكئ على آفة الإهمال أو (اللافعل)، والتعامل مع المواقف ب(بوهيمية) نفسية بليدة لا تفرق بين الحق والباطل، ولا بين الواجب وما لا يجب!
إذا، فنحن أمام مشهدين متناقضين من الحراك الإنساني، كلاهما يفسدان الطبع ويعطلان قدرة صاحبه على التكيف السوي مع تداعيات الحياة.. وهواجس الفطرة السليمة قولاً وعملاً، والمرء المصاب بأي منهما بلاء لنفسه.. وابتلاء لغيره من البشر الذين لا وزر لهم في فساد طبعه، واعتلال توازنه.. إفراطاً كان أو تفريطاً!
وأود هنا أن أدلل على شيوع هذه الظاهرة (بشقيها) بأمثلة استلهمها من نسيج حياتنا المعاصرة، فمثلاً:
1 - الإفراط في تناول الطعام لا يقل ضرراً عن الحرمان منه، كلاهما يجهدان خلايا البدن، ويوديان بصاحبه إلى شيء من إعياء لا يستوي معه قول ولا عمل!
2 - ويستوي مع ذلك أذى غلو البعض في حرمان البدن من طيبات الطعام، طلباً ل(الرشاقة) وكبحاً ل(السمنة) وما تفرزه من أضرار.
3 - والإفراط في الحب.. قد يفقد صاحبه قرب من يحب، وداً ووصلاً، وقد يوغر صدره عليه بعواطف متضاربة من الغيرة والحقد.. وقد تبلغ هذه المشاعر حد إلحاق الأذى الجسدي بالمحبوب إهلاكاً!
قديماً قالوا: (من الحب ما قتل) ومن الأمثلة الحديثة لذلك مأساة الأسمر الأمريكي، (أوجي سيمبسون) الذي كان متهماً بقتل مطلقته وصاحبها، فقد كان يحبها حباً جماً.. وظل يطاردها حتى بعد أن فصل بينهما (أبغض الحلال)، وكانت عشرتهما شاهداً على توتر مستطير بينهما.. فلما اتخذت لها صاحباً، لم يعد في الأرض متسع لغضب سيمبسون، فقرر أن يهد (معبد حبه) على نفسه ومن أحب! ورغم أن المحكمة الأمريكية برأته من تهمة القتل البشع (لعدم توفر الأدلة) إلا أن آلافاً هنا وهناك ممن تابعوا (مسلسل) المحاكمة يعتقدون ويراهنون اليوم وغداً على أنه هو (الفاعل) لا سواه!
وهناك المفرطون في مثاليات العمل وأخلاقياته على نحو يضرهم.. ويضير غيرهم، فهم لا يرضون عن شيء، ولا حتى عن أنفسهم، لأنهم ينشدون الكمال.. في كل شيء، ويحتقرون الخطأ وفاعله إلى درجة من الجنون.. وينسون أن الكمال للخالق لا المخلوق.. وأن (الخطأ) مدرسة يتعلم منها وفيها المرء سبل الصواب.
ويقف نقيضاً لما سبق ذكره أولئك الذين يفرّطون (بتشديد الراء مع كسرها) في أداء ما كلفوا به، حتى لا يبقى لهم من الإرادة أو الوقت أو العزم ما يؤدون به الحد الأدنى مما كلفوا به.. فيكون نصيبهم الفشل! ومن عجب أن الكاره للخطأ، طلباً للكمال.. والمتساهل فيه، زهداً في الفوز.. يردان مورد الفشل.. في خاتمة المطاف!!
أنهي هذا الحديث بالقول إن خير الأمور أوسطها.. لا إفراطاً يعمي البصيرة.. ولا تفريطاً يهمش الإرادة، والمرء السوي هو ذلك الذي يعمل بلا قنوط.. ولا غرور.. ولا إسراف، وهو ذلك المقتصد.. متى أحب أو كره، ومتى أكل أو لبس، ومتى عمل وبذل، ومتى رضي أو غضب، وبدون هذا التوازن.. تكون الحياة.. جمرة من جحيم!